الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فإن أمة الإسلام التي
أكرمها الله بدينه وحباها برسالته قامت على دعائم قوية إذا اعتنت بترسيخها
قويت عزيمتها وارتفع لواؤها وعز جاهها، وإذا فرطت في تلك الدعائم فعصت ربها
وخالفت سنة نبيها هانت على عدوها، وإن من دعائم الإسلام تحريم الفواحش ما
ظهر منها وما بطن. قال تعالى: [
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم
عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق
نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ]
[الأنعام:
151]. وحرصا منا ورغبةً
في نصح الأمة وتحذيرها من الفواحش وخطرها، نقول مستعينين بالله عز
وجل: تعريف الفواحش الفواحش: كل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي، وكل خصلة
قبيحة فهي فاحشة، والفحش والفحشاء والفاحشة: القبيح من القول والفعل،
وجمعها الفواحش، ومنه قول النبيصلي الله
عليه وسلم لعائشة حين ردت على اليهود الذين دخلوا على النبي
صلي الله عليه وسلم فقالوا:
السام عليك يا محمد- يعنون بالسام: الموت- فقال لهم النبي صلي الله عليه وسلم : "وعليكم". فقالت
عائشة رضي عنها: "عليكم السام واللعنة وغضب الله عليكم". فقال لها النبي
صلي الله عليه وسلم: "لا
تقولي ذلك يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش ولا
التفاحش". فأراد النبي صلي الله عليه وسلم بالفحش التعدي في
القول، مع أن عائشة رضي الله عنها لم تذكرهم إلا بما هم عليه وبما وصفهم
الله عز وجل به وحكم عليهم به من الغضب
واللعنة. وأصل الفحش الزيادة
والكثرة، ولهذا يقرر الفقهاء أنه يُعفى عن يسير النجاسة التي لا يمكن
التحرز منه، ولا يعفى عما فحش منها أي كثر. وفي القرآن الكريم: [ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع
المغفرة..] [النجم:32]. ففرق الله بين كبائر الإثم والفواحش وبين اللمم، فجعل
كبائر الإثم والفواحش لما فحش، وجعل اللمم لما
صغر. وكثيرًا ما ترد الفاحشة
بمعنى الزنى، قال تعالى: [ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة
منكم] [النساء:15]. وقال تعالى:[ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب] [النساء:
25]. وقال تعالى:
[ولا تقربوا الزنى إنه كان
فاحشة وساء سبيلا] [الفرقان]. واختلفوا في معنى قول الله تعالى: [لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة] [الطلاق]، فقيل المراد بالفاحشة: الزنى، وقيل:
البذاء وسلاطة اللسان، والمعنى يعمهما. التبرج والعري من
الفواحش التي نهانا الله عنها لما كان لباس التقوى خير لباس يتجمل به العبد جعله الله
ينزع عمن نزع عن نفسه اللباس الساتر للعورات كما ذكر ربنا في كتابه الكريم:
[يا بني آدم قد أنزلنا عليكم
لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم
يذكرون (26) يا
بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما
ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين
أولياء للذين لا يؤمنون] [الأعراف: 26، 27]، وقال تعالى: [وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها
آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما
لا تعلمون] [الأعراف:
28]. وردت هذه الآية
بعد التحذير من الشيطان الذي أخرج آدم وزوجه من الجنة وبيان أنه ولي للذين
لا يوقنون، والامتنان على بني آدم بالستر باللباس
والريش. وورد بعدها: [قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند
كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون] [الأعراف: 29]، وهذا دليل على أن
العري من الفحش الذي يأمر به الشيطان ويدعو إليه، ويحرمه الله
تعالى. مفهوم خاطئ إن منهج الناس في قصر مفهوم الفاحشة على جريمة الزنى
يجعلهم يعتادون الفواحش ولا ينكرونها: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها
وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. ولهذا اعتاد قوم لوط الفاحشة ولم يستحيوا من ارتكابها:
[ولوطا إذ قال لقومه أتأتون
الفاحشة وأنتم تبصرون] [النمل: 54]، ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما
سبقكم بها من أحد من العالمين. الغرب المتحضر يشيع
الفاحشة! اللواط من أبشع
الجرائم وأقبحها، وهو لوثة أخلاقية، ومرضٌ خطير، فنجد جميع من يتصفون به،
سيئي الخلق، فاسدي الطباع، فاقدي الحياء، لا يميزون بين الفضائل والرذائل،
لا وجدان يؤنبهم ولا ضمير يردعهم. ولقد وصلت حالة التدني والانحطاط مداها في هذا العصر،
وسقطت الحضارة الأمريكية المزعومة، في حمأة الرذيلة، وجاء "رئيسها المتحضر"
يطلب من الكونجس الأمريكي وبلا أدنى حياء إقرار قانون الزواج بين الشواذ
إشاعة للفاحشة، وترويجًا لمبادئ الحرية الزائفة، وبعض الكنائس كذلك تبيح
هذا الزواج، وهذه هي حضارة العالم الجديد التي يتغنى بها سدنتها وساستها،
وهذا هو السر وراء حملات الاضطهاد المتواصل والتضيق على دعاة الفضيلة
والطهر من المسلمين في العالم وهم بهذا المسلك الفاضح يضاهؤون منهج أسلافهم
من الشواذ وقولهم [أخرجوا آل
لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون] [النمل:56]. الشيطان يأمر
بالفحشاء: قال تعالى:
[يا أيها الناس كلوا مما في
الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
*إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما
لا تعلمون] [البقرة: 168-
169]. وقال تعالى:
[الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم]
[البقرة: 268]. قيل:
المراد بالفحشاء هنا البخل والشح. دين قويم، يأمر بكل
جميل، وينهى عن كل قبيح قال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وهذه الآية جامعة
لجميع المأمورات، والمنهيات، لم يبق شيء إلا دخل فيها، فهي قاعدة ترجع
إليها سائر الجزئيات، فكل مسألةٍ مشتملةٍ على عدلٍ أو إحسان، أو إيتاء ذي
القربى، فهي مما أمر الله به، وكل مسألة مشتملة على فحشاءٍ أو منكرٍ أو
بغي، فهي مما نهى الله عنه فتبارك من جعل من كلامه الهدى والنور، والفرقان
بين جميع الأشياء الغيرة من ارتكاب
الفواحش الغيرة على
الأعراض من كريم الأخلاق ومحاسن الشيم التي يتحلى بها أصحاب الفطر السليمة
والنفوس المستقيمة عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه وسلم : "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش وما أحد
أحب إليه المدح من الله". [متفق عليه]. وفي رواية لمسلم كتاب التوبة (ح4958): "ليس أحدٌ أحبَّ إليه المدح من الله عز وجل ومن أجل ذلك حرم
الفواحش، وليس أحد أحبَّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل
الرسل". وفي رواية عن
المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير
مُصْفَحٍ، فبلغ ذلك رسول الله صلي الله
عليه وسلم، فقال: "أتعجبون من غيرة سعد، واللهِ لأنا أغيرُ منه، واللهُ أغيرُ
مني، ومن أجل غيرة اللهِ حَرَّمَ الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد
أحبُ إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ولا أحدَ
أحبُ إليه المِدْحَةُ من الله، ومن أجل ذلك وعد
الجنة". [البخاري كتاب التوحيد ح6866، باب: لا شخص أغير من
الله]. حكم الزنى وتحريمهُ وعقوبة
الزاني: قال تعالى:
[الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين]
[النور:2] وهذا الحكم، في الزاني والزانية البكرين، أنهما يجلد كل منهما
مائة جلدة، وأما الثّيب، فقد دلت السنة الصحيحة المشهورة، أن حده الرجم،
ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة بهما، في دين الله، تمنعنا من إقامة الحد
عليهما، سواء رأفة طبيعية أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأن الإيمان،
موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة، من إقامة أمر الله، فرحمته لجريان القدر
عليه، فلا نرحمه من هذا الجانب. وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين طائفة،
أو جماعة من المؤمنين ليشتهر، ويحصل بذلك الخزي والارتداع، وليشاهدوا الحد
فعلاً، فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل، مما يقوي به العلم، ويستقر به
الفهم، ويكون أقرب لإصابة الصواب، فلا يزاد فيه، ولا ينقص. والله
أعلم. حكم
من وجد امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ قال تعالى: [والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم
أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين *
والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين
* والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من
الصادقين *
ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم] [النور:6-10]. وأخرج البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله
عنه قال: "أن عويمرًا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون
في رجل وجد مع امرأته رجلا، فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله
صلي الله عليه وسلم عن ذلك،
فأتى عاصم النبي صلي الله عليه
وسلمفقال: يا رسول الله، فكره رسول الله المسائل، فسأله
عويمر، فقال: إن رسول الله صلي الله عليه
وسلم كره المسائل وعابها قال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل
رسول الله صلي الله عليه وسلم
عن ذلك فجاء عويمر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته
رجلا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: قد أنزل الله القرآن فيك وفي
صاحبتك فأمرهما رسول اللهصلي الله عليه
وسلم بالملاعنة بما سمَّى الله في كتابه فلاعنها ثم قال: يا
رسول الله، إن حبستها فقد ظلمتها فطلَّقها، فكانت سنة لمن كان بعدهما في
المتلاعنين، ثم قال رسول الله صلي الله
عليه وسلم : انظروا، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم
الأليتين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرًا إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به
أحيمر كأنه وحرة فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها فجاءت به على النعت
الذي نعت رسول اللهصلي الله عليه وسلم
من تصديق عويمر، فكان بعدُ ينسبُ إلى
أمه". التفحش ليس من أخلاق
المؤمنين عن عبد الله بن
عمرو قال: "لم يكن النبي
فاحشًا ولا متفحشا، وكان يقول: إن من خياركم أحاسنكم
أخلاقًا".[رواه البخاري
ومسلم] قال رسول الله
صلي الله عليه وسلم :
"إن شر الناس منزلة عند الله
يوم القيامة من تركه الناس اتقاءَ فحشه".[متفق
عليه] التوبة من الفواحش قال تعالى: [والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا
لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم
يعلمون] [آل
عمران:135]. فسبحان من يبسط
يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، وسبحان من يبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ
الليل، لقد ضمن الله عز وجل لمن تاب من الشرك وما دونه من الكبائر المغفرة
والرحمة، وهذا حكم عام لكل تائب من كل ذنب، قال تعالى: [قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور
الرحيم] [الزمر:53]. فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد،
فسبحان من وسعت رحمته كل شيء. فهل من توبة وعودة إلى
شرع الله؟ فشريعة الإسلام
تكفل للأمة أمنها وتضمن لها استقرارها فهل من توبة وعودة إلى الله لتستقيم
بها حياتنا، ونستمطر بها رحمة ربنا، فننهض من سباتنا لنستأنف دورنا في
قيادة البشرية من جديد، وننشر الطهر في العالمين؟ هذا ما نأمله ونرجوه
والله من وراء القصد. |