مسئولية الحاكم المسلم

 
 
عرض المقال
 
مسئولية الحاكم المسلم
42724 زائر
17-09-2010
غير معروف
د: جمال المراكبي

مسئولية الحاكم المسلم

إذا كانت سلطات الحاكم محددة ومقننة شرعاً ، وإذا كان الحاكم لا يتولى منصبه إلا للقيام بأعبائه ومهامه على أكمل وجه ، فإن الحاكم لابد أن يكون مسئولاً مسئولية تامة عن أعماله ، فالقاعدة البدهية أنه حيث تكون السلطة تكون المسئولية ، وليس من المقبول أن تتجمع فى يد الحاكم كل هذه السلطات ، ولا يوجد من يسأله عن أخطائه ، أو أن يُسأل عنها أحد سواه .

إن قاعدة عدم مسئولية رئيس الدولة ، وأن الملك لا يخطىء ، ليست إلا رواسب للوثنية التى تدعو إلى تقديس الحاكم وتأليهه ، والتى جاء الإسلام للقضاء عليها ، وتحرير البشر من أغلالها (1) .

وتنقسم مسئولية الحاكم المسلم إلى قسمين : قسم شرعى دينى . وقسم سياسى .

والقسمان مترابطان، فهما وجهان لعملة واحدة، أو هما مظهران لقاعدة المسئولية.

أولاً : المسئولية الدينية:من الطبيعى أن تتبوأ المسئولية الدينية مكانة رفيعة فى دولة عقائدية تؤمن بالله واليوم الآخر ، وتسعى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وتطبق شرعاً إلهياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتشترط فى أمامها وفى كل الولاة شروطاً خاصة من أهمها : العلم ، والعدالة التى تعنى التقوى والورع .

ونلمس أثر هذه المسئولية فى ضمير العبد المؤمن ، فى مخافته من ربه ، وفى محاسبته لنفسه قبل أن يحاسبه ربه، لأنه يؤمن أنه لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ وعن علمه ما عمل به ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟ وعن جسمه فيما أبلاه . ( الترمذى ) .

وأشد الناس سؤالاً يوم القيامة : من يُسأل عن المسلمين جميعاً ، وهو : الحاكم المسلم : " كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الذى على الناس راعٍ ، وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راعٍ على أهل بيته ، وهو مسئول عن رعيته .. " الحديث . ( متفق عليه )

ولا شك أن جزاء التفريط والتضييع يتضاعف بالنسبة لمن يسأل عن الناس جمعياً ، وذلك مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزى وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذى عليه فيها " ( مسلم ) .

"ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " . ( مسلم )

لقد لعبت المسئولية الدينية دوراً هاماً فى حياة الأمة الإسلامية ، وتركت أثراً ملموساً فى تاريخ الدولة الإسلامية ، فبها بزغ نجم عمر بن عبد العزيز فى ظلمات الجور والأثرة .

لقد استشعر الصديق هذه المسئولية فقال لأبيه " طوقت عظيماً من الأمر : ولا يُدان إلا بالله " ( ابن سعد ) .

ومما يؤثر عن عمر قوله : " لو ماتت شاة بشط الفرات ضائعة لظننت أن الله سائلى عنها يوم القيامة " ( ابن الجوزى – تاريخ عمر بن الخطاب ) .

" وددت لو أنى خرجت منها كفافاً لا على ولا لى " ( ابن الجوزى ) .

ومما يؤثر عن عثمان قوله : إن وجدتم فى كتاب الله أن تضعوا رجلى فى قيود فضعوهما . ( ابن سعد ) .

ويوضح أبو مسلم الخولانى فلسفة الإسلام فى الإمرة والولاية حين يدخل على معاوية فيقول : السلام عليك أيها الأجير ، فلما أنكر الجالسون قال لهم معاوية : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول .

فيقول أبو مسلم : إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعيتها ، فإن أنت هنأت جرباها ، وداويت مرضاها ، وحبست أولاها على أخراها ، وفاك سيدها أجرك ، وإن أنت لم تهنأ جرباها ، ولم تداو مرضاها ، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها . ( السياسة الشرعية لابن تيمية ) .

ومن الواضح أن هذه المسئولية محددة المعالم ، يعلمها أهل التقوى والورع من الحكام ، ويقوم العلماء بدور التنبيه والتذكير لمن غفل عنها منهم ، وكلما قوى الوازع الدينى بين المسلمين قوى الإحساس بهذه المسئولية بين جميع فئات الأمة وأفرادها ، وكلما ضعف الوازع الدينى ضعف الإحساس بها ، حتى لا نكاد نرى لها مكاناً فى دنيا الناس ، وكيفما تكونوا يُول عليكم ، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

ثانياً : المسئولية أمام الأمة :

هذا هو الوجه السياسى لقاعدة المسئولية ، فإن الوازع قد يضعف ولا يكفى لسير الحاكم على الطريق المستقيم ، ومن هنا فقد أوجب الشرع على الأمة أن تأخذ على يديه حتى يلتزم الحق ويعاوده ، وعلى هذا فالأمة دائمة المراقبة والمحاسبة لولاة الأمور ، وتستمد الأمة هذا الحق فى الرقابة من نصوص الشرع ، ومن وضعيتها ومسئوليتها عن أحكام الشرع ، فالأمة مسئولة عن إقامة شرع الله ، وهى المخاطبة بأحكام الشرع ، وقد تم نصب الإمام لأجل ذلك ، فإذا حاد عن الشرعية وخالف الشريعة ، كان لزاماً على الأمة أن تأخذ على يديه لترده إلى جادة الصواب .

وإذا كانت الشورى إحدى أسس الحكم فى الدولة الإسلامية ، فإن الشورى تعد كذلك أساساً لقاعدة المسئولية ، ورقابة الأمة ، فالأمة تشارك فى صنع القرار السياسى ، وتحاسب الحاكم عن طريق ممثليها من أهل الحل والعقد .

وإذا كان الحاكم نائباً عن الأمة ، فإن قاعدة الوكالة تقضى بأن يكون للأصيل – الأمة – حق مراقبة الوكيل – الحاكم – وذلك لضمان سيره على وفق إرادة الأمة .

والنصيحة – كواجب تبادلى بين الأمة وبين الحاكم – تعطى الأمة الحق فى مراقبة الحاكم ومساءلته ، وتوجيه النصح له ، فالدين النصيحة ، ومناصحة ولاة الأمور من أوجب الواجبات التى رضيها الله تعالى لنا : " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمور ، ولزوم جماعة المسلمين " .

والمناصحة تختلف باختلاف حال الناصح ومكانته ، وباختلاف حال المنصوح له ، وقد سبق أن فصلنا ذلك فى مقال سابق .

لقد جعل الله سبحانه الأمور بالمعروف والنهى عن المنكر من سمات هذه الأمة وأوجبه عليها " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " ( آل عمران : 110 ) .

فيجب على الأمة أن تأمر حاكمها بالمعروف ، وتنهاه عن المنكر ، وتأخذ على يديه ، وتحمله على الحق ، وسندها فى ذلك قول الله تعالى : " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ " (آل عمران : 104 ) .

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطيع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ( مسلم ) .

"سيكون بعدى خلفاء يعملون بما يعلمون ، ويفعلون ما يؤمرون ، وسيكون بعدى خلفاء يعملون بما لا يعلمون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن أنكر عليهم برىء ، ومن أمسك يده سَلِمَ ، ولكن من رَضِى وتابع " (1) والنصوص فى ذلك كثيرة .

والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من أنجح الوسائل لمراقبة الأمة حاكميها ومحاسبتهم ، ولكن بوسائله المشروعة ، ومن أهمها : العلم ، فإنه كمبضع الجراح إذا استعمله الطبيب الحاذق كان الشفاء مرجواً ، وإذا استعمله الجاهل كان الموت محتوماً .

ومن هنا يتضح لنا أن عامة الناس وأكثرهم لا يحسنون محاسبة ولاة الأمور ، وإنما يقوم بذلك أهل الحل والعقد ، وهم الذين يرجع إليهم جماهير الأمة فيما يحتاجونه من أمور الدين والدنيا على السواء .

ولأن الأمر قد يصل إلى حد عزل الحاكم من منصبه وتحريك الصراع ضده وهذا أمر لا يحسنه عامة الناس ، ولو تصدوا له لكان ما يفسدون أكثر مما يصلحون .

وقد خرج الرعاع على الخليفة الراشد عثمان بن عفان ، ولم يتبعوا فى ذلك أهل الحل والعقد وأهل العلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت النتيجة : فتنة كبرى عانت منها الأمة الإسلامية طويلاً .

وقد أشار النبى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال لعثمان : " لعل الله يُقمصك قميصاً ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم " (2) .

وقد يظن بعضهم – حين يسمع مثل هذا الحديث – أن الإسلام يمنع عزل الحاكم وإن جار ، وأن الخليفة يحكم بمقتضى حق إلهى مقدس ، لا يجوز لأحد من الناس مساءلته ، وهذا ما يدعيه أكثر المستشرقين وأذنابهم من المستغربين والعلمانيين .

والحقيقة : أن الإسلام لا يقر الاستبداد ، ولا يمنح الحاكم حقاً إلهياً مقدساً ، ولكنه – أيضاً – لا يقر الفوضى بحال ، وعليه فلا يجوز لعامة الناس أن يقوموا على الحاكم ، تحركهم أهواؤهم ، فتصير فتنة . تسفك بها الدماء ، وتنتهك الحرمات ، ولو استجاب الحاكم لهم – على جهلهم – صار الحل والعقد بيدهم ، وهم ليسوا أهلاً لذلك .

وأخيراً نختم هذا الموضوع ببعض السوابق التاريخية فى هذا الصدد .

السوابق التاريخية كأساس للمسئولية :

لقد جاءت السوابق التاريخية فى عصر الخلافة الراشدة وما بعدها مؤكدة على قاعدة مسئولية الحاكم أمام الأمة .

فهذا أبو بكر يقرر حق الأمة فى مراقبة حكامها فى أول خطاب له فيقول : " أيها الناس إنى وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينونى ، وإن أسأت فقومونى ، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت فلا طاعة لى عليكم " (3) .

وفى تاريخ عمر بن الخطاب : أنه كان بينه وبين رجل كلام ، فقال له الرجل : اتق الله يا أمير المؤمنين . فقال رجل من القوم : أتقول لأمير المؤمنين اتق الله ؟ فقال عمر : دعه فليقلها لى نِعمَ ما قال ، لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم (4) .

وصعد معاوية المنبر فقال عند خطبته : " إنما المال مالنا والفىء فيئنا فمن شئنا أعطيناه ، ومن شئنا منعناه " ، فلم يجبه أحد ، فلما كان فى الجمعة الثانية قال مثل ذلك فلم يجبه أحد ، فلما كان فى الجمعة الثالثة ، فقال مثل مقالته ، قام إليه رجل من حضر المسجد فقال : كلا إنما المال مالنا والفىء فيئنا فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا .

فنزل معاوية فأرسل إلى الرجل فأدخله ، فقال القوم : هلك الرجل ، ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير – سرير الملك – فقال معاوية للناس : إن هذا أحيانى أحياه الله .

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون بعدى أمراء يقولون ولا يُرد عليهم ، يتقاحمون فى النار كما تتقاحم القردة " وإنى تكلمت فى أول جمعة فلم يُرد على فخشيت أن أكون منهم ، ثم تكلمت فى الجمعة الثانية فلم يَرُد على أحد ، فقلت فى نفسى إنى من القوم ، ثم تكلمت فى الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فرد على، فأحيانى أحياه الله (5) .

---------------------------

(1) مازالت هذه القاعدة موجودة حتى الآن فى الأنظمة المعاصرة ، ففى النظام الرئاسى المعروف بالولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن مساءلة الرئيس سياسياً أمام البرلمان أو حتى أمام الشعب ، وليس أمام جماهير الشعب – إذا كانت لا توافق على سياسة الرئيس – سوى خيار واحد ، هو : ألا تعيد انتخابه مرة أخرى ، ولكن يمكن مساءلة الرئيس جنائياً فى حالة الخيانة العظمى أو الرشوة أو غير ذلك من الجنايات ، وأقصى عقوبة يمكن الحكم بها هى العزل ، وتتوقف إجراءات المحاكمة إذا قدم الرئيس استقالته . وفى النظام البرلمانى تُعد قاعدة عدم المسئولية أحد أركان هذا النظام ، فذات الملك مصونة لا تمس ، والملك لا يخطئ ، ومن ثم لا يُسأل سياسياً ولا جنائياً ، وقد لجأت هذه الأنظمة إلى مساءلة الوزراء نيابة عن الملك ، ومن ثم انتقلت السلطة الفعلية إلى الوزارة ، وبقى للملك سلطة اسمية فقط . هذه قاعدة المسئولية فى أعرق الأنظمة الديمقراطية ، أما فى الأنظمة الشمولية والديكتاتورية فليس هناك مجال للحديث عن قاعدة مسئولية الحاكم أصلاً.

(2) أخرجه الترمذى وقال : حسن غريب – وابن أبى عاصم فى السنة وصححه الألبانى ج2 ص560 ح رقم 1173 .

(3) البداية والنهاية ج6 ص 340 بسند صحيح .

(4) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزى ص 142 .

(5) رواه الطبرانى فى الكبير والأوســط ، وأبو يعلى ورجاله ثقـات . مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج5 ص 239 .

   طباعة 
 
     
 
 
 
 
 
روابط ذات صلة
 
روابط ذات صلة
المقال السابقة
المقالات المتشابهة المقال التالية
 
     
 
 
 
 
 
جديد المقالات
 
جديد المقالات
 
     
 
 
 
القائمة الرئيسية
 
 
 
القائمة البريدية
 

أدخل بريدك الالكتروني لتصلك آخر اخبارنا
 
 
البحث
 
البحث في
 
 
تسجيل الدخول
 
اسم المستخدم
كـــلمــة الــمــرور
تذكرني
تسجيل
نسيت كلمة المرور ؟
 
 
عدد الزوار
  انت الزائر :393382
[يتصفح الموقع حالياً [ 41
الاعضاء :0الزوار :41
تفاصيل المتواجدون
 
 
 
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ الدكتور جمال المراكبي حفظه الله © 1431 هـ
اتصل بنا :: اخبر صديقك :: سجل الزوار :: البحث المتقدم :: الصفحة الرئيسية