محبة الله عز وجل



الحب نقيض البغض، والحب والود بمعنى واحد؛ قال القاضي عياض: حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون مُوافقته له إما لاستلذاذه بحسِّه؛ كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة، والأطعمة والأشربة اللذيذة، وإما لاستلذاذه بإدراكه بعقله وقلبه معاني شريفة؛ كحبِّ العلم والعلماء وحب الصالحين.


 


وإمَّا أن يكون حبه إياه؛ لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه، فقد جبلت النفوس على حب مَن أحسن إليها.


 


والحب ثمرة من ثمرات الإدراك والمعرفة؛ لأجلِ هذا يتفاوت الناس في حبهم للأشياء والأشخاص تبعًا لتفاوُتِهم في الإدراك والمعرفة، فإذا كانت وسائلُ الإدراك سليمة أحبَّ الإنسان ما ينفعه، وإلا أحب الضار يحسبه نافعًا.


 


ودواعي المحبة وأسبابها ترجع إلى أمور ثلاثة:


أولها: ما قام بالمحبوب من صفات تدعو إلى محبته.


والثاني: ما قام بالمحب من شعور بهذه الصفات وإحساس بها.


الثالث: موافقة بين المحب والمحبوب، فإنَّ الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف؛ ولهذا فإنَّ النفوس الزكية الشريفة تُحبُّ صفات الكمال، أما النفوس الدنيَّة اللئيمة فتعشق كل قبيح.


 


أنواع المحبة:


1 - محبة طبيعية غريزية، كحب المال والأهل والولد، وهي مباحة ما لم تشغل عن طاعة الله - عزَّ وجلَّ - ولم تُعِن على ما حرم الله، وإلا كانت ضارة مهلكة.


 


قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].


 


وقال: ﴿ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20-21].


 


وقال: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20].


 


وقال: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8].


 


وقال سبحانه: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ﴾ [يوسف: 30].


 


وفي الصحيح: ((لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: حب الدنيا، وطول الأمل)).


 


ولقد أباح الله لعباده الطيبات من الرزق، وحرم عليهم كلَّ خبيث، وأمرهم باكتساب الطيبات، ولم يمنع من محبتها والتلذُّذ بها على الوجه المأذون فيه، والواجب على كل عاقل أنْ يقيد هذه المحبة، ويضبطها بضابط الشرع؛ حتى لا تكون سببًا في هلاكه وضياع آخرته.


 


2 - محبة شركية، وهي محبة الأنداد كما يحب الله - عزَّ وجلَّ - قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ﴾ [البقرة: 165].


 


3 - محبة نفاق، وهي محبة الباطل وأهله، وكراهية الحق وأهله، ومحبة أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، وأن يرتدُّوا عن دينهم؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 19]، وقال: ﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [البقرة: 120].


 


4 - محبة شرعية إيمانية لله ولرسوله ولدينه ولأوليائه، وهذه المحبة هي معقد العبودية وأوثق عرى الإيمان.


 


وحب الله - تعالى - أصل كل محبة، فالله - سبحانه وتعالى - هو الموصوف بكل صفات الكمال والجلال والعظمة، وهو سبحانه المتفضِّل بكل صنوف النعم والإحسان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وقال: ﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18].


 


ولهذا لا يجوز بحال أنْ نسوي بين الله وبين غيره في المحبة، كما يفعل المشركون؛ لأنَّ الله - سبحانه - لا مثيل له؛ ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].


 


فالمحبوب لذاته هو الله، ومحبة غيره تابعة لمحبته - سبحانه - كمحبة رسوله وأوليائه؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].


 


تقديم محبة الله على كل محبة:


وإذا أحب العبد ربَّه، وقدم محبته على كل محبة، وعلى كل محبوب، فقد ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، ولهذا فإنه لا يفرط في هذا الإيمان وفي هذه المحبة بحال من الأحوال؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاق طعمَ الإيمان من رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا))؛ مسلم.


 


وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أنْ يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأنْ يُحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار))؛ متفق عليه.


 


محبة الله للمؤمنين:


الله - سبحانه وتعالى - يُحب عباده المؤمنين، ويواليهم ويتقرب إليهم مثلما يُحبونه ويوالونه ويتقربون إليه، فالمحبة من اللَّه صفة من صفاته تليق به - سبحانه وتعالى - نؤمن بها ولا نؤوِّل ولا نُكيف، فإذا أحب اللَّه عبدًا، جعل محبته في قلوب أوليائه، ووضع له القَبول في الأرض، ففي الصحيح: ((إذا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريل، فقال: إنِّي أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إنَّ الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم توضع له القَبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبدًا، نادى جبريل: إنِّي أبغض فلانًا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إنَّ الله يبغض فلانًا فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم تُوضع له البغضاء في الأرض)).


 


الأسباب الجالبة لمحبة الله - عزَّ وجلَّ -:


بيَّن لنا المولى - سبحانه - في كتابه أنَّه يحب المحسنين، ويحب المتقين، ويُحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين، ويحب المقسطين؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وقال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133 - 134].


 


وقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4]، وقال: ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7]، وقال تعالى: ﴿ فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وقال سبحانه: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].


 


وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4].


 


وقال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وقال سبحانه: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42]، وقال: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].


 


وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].



تاريخ الاضافة: 13-10-2010
طباعة