الوصية الواجبة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وعلى رسل الله أجمعين، أما بعد

فقد شرع الله لعباده الوصية في كتابه وأمر بها على لسان رسوله فقال سبحانه [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ][البقرة ]

وقال رسول الله [ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده]متفق عليه

وظاهر الآية والحديث إيجاب الوصية على كل مسلم ومسلمة، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، قال ابن حزم الْوَصِيَّةُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ تَرَكَ مَالاً، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ» قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنذْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ذَلِكَ إِلاَّ وَعِنْدِي وَصِيَّتِي وَرُوِّينَا إيجَابَ الْوَصِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ يُشَدِّدَانِ فِي الْوَصِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، وطَاوُوس، وَالشَّعْبِيِّ، وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا

قال ابن حجر في الفتح واستدل بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية وبه قال الزهري وأبو مجلز وعطاء وطلحة بن مصرف في آخرين، وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم، وبه قال إسحاق وداود، واختاره أبو عوانة الإسفرايني وابن جرير وآخرون

وذهب جماهير العلماء إلى عدم وجوب الوصية، قال ابن حجر ونسب ابن عبد البر القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذ، كذا قال، واستدل لعدم الوجوب من حيث المعنى لأنه لو لم يوص لقسم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصية واجبة لأخرج من ماله سهمًا ينوب عن الوصية اهـ

وهذا الذي نفاه بالإجماع قد قال به جماعة من أهل العلم منهم ابن حزم وهو عمدة القائلين بالوصية الواجبة قال ابن عبد البر في «التمهيد» وأجمعوا أن الوصية ليست بواجبة إلا على من كانت عليه حقوق بغير بينة أو كانت عنده أمانة بغير شهادة، فإن كان ذلك فواجب عليه الوصية فرضًا، لا يحل له أن يبيت ليلتين إلا وقد أشهد بذلك، وأما التطوع فليس على أحد أن يوصي به إلا فرقة شذت فأوجبت ذلك، والآية بإيجاب الوصية للوالدين والأقربين، منسوخة ولم يوص رسول الله ولو كانت الوصية واجبة كان أبدر الناس إليها رسول الله بل قال عليه الصلاة والسلام «أفضل الصدقة أن تعطي وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت النفس الحلقوم قلت هذا لفلان وهذا لفلان»

قال وحدثنا إسماعيل قال سمعت عبد الله بن عون يقول إنما الوصية بمنزلة الصدقة، فأحب إلي إذا كان الموصى له غنيًا عنها أن يدعها، وأما قول سعد في الحديث وأنا ذو مال ففيه دليل على أنه لو لم يكن ذا مال ما أذن له رسول الله في الوصية، والله أعلم، ألا ترى إلى قوله «لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وقد منع علي بن أبي طالب أو ابن عمر مولى لهم من أن يوصي وكان له سبع مائة درهم، وقال إنما قال الله تبارك وتعالى[ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ]، وليس لك كبير مال

وروى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال لا يجوز لمن كان ورثته كثيرًا وماله قليلاً أن يوصي بثلث ماله

وقد أجمع العلماء على أن من لم يكن عنده إلا اليسير التافه من المال أنه لا يندب إلى الوصية قال أبو عمر ليس في كتاب الله ذكر الوصية إلا في قوله عز وجل كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ وهذه الآية نزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، فلما أنزل الله حكم الوالدين وسائر الوارثين في القرآن نسخ ما كان لهم من الوصية وجعل لهم مواريث معلومة على حسب ما أحكم من ذلك تبارك وتعالى، وقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن أن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم وروي عن النبي أنه قال «لا وصية لوارث» وهذا بيان منه أن آية المواريث نسخت الوصية للوارثين وأما من أجاز نسخ القرآن بالسنة من العلماء فإنهم قالوا هذا الحديث نسخ الوصية للورثة وللكلام في نسخ القرآن بالسنة موضع غير هذا اهـ

واحتج ابن بطال تبعًا لغيره بأن ابن عمر لم يوص فلو كانت الوصية واجبة لما تركها، وهو راوي الحديث، فعن نافع قال قيل لابن عمر في مرض موته ألا توصي ؟ قال أما مالي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه، وأما رباعي فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد أخرجه بن المنذر وغيره وسنده صحيح ويجمع بينه وبين ما رواه مسلم بالحمل على أنه كان يكتب وصيته ويتعاهدها ثم صار ينجز ما كان يوصي به معلقًا، وإليه الإشارة بقوله فالله يعلم ما كنت أصنع في مالي ولعل الحامل له على ذلك حديثه في الرقاق إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح الحديث فصار ينجز ما يريد التصدق به فلم يحتج إلى تعليق

فمن مات ولم يوص فهو آثم عند من قال بوجوب الوصية ولا يجب في ماله وصية ولا صدقة إلا أنَّ ابن حزم الظاهري قد أوجب الوصية في ماله وان لم يوص فقال فَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يُوصِ فَفُرِضَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِمَا تَيَسَّرَ، وَلاَ بُدَّ، لأََنَّ فَرْضَ الْوَصِيَّةِ وَاجِبٌ، كَمَا أَوْرَدْنَا فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فإن كان ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ مِلْكُهُ عَمَّا وَجَبَ إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِ، وَلاَ حَدَّ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَا رَآهُ الْوَرَثَةُ، أَوْ الْوَصِيُّ مِمَّا لاَ إجْحَافَ فِيهِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ، وَقَدْ صَحَّ بِهِ أَثَرٌ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَإِنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «نَعَمْ، فَتَصَدَّقَ عَنْهَا فَهَذَا إيجَابُ الصَّدَقَةِ عَمَّنْ لَمْ يُوصِ، وَأَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام فَرْضٌ وروى مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام «نَعَمْ» فَهَذَا إيجَابٌ لِلْوَصِيَّةِ، وَلاََنْ يُتَصَدَّقَ عَمَّنْ لَمْ يُوصِ، وَلاَ بُدَّ، لأََنَّ التَّكْفِيرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي ذَنْبٍ، فَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام أَنَّ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ يَحْتَاجُ فَاعِلُهُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ ذَلِكَ، بِأَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ، وَهَذَا مَا لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي مَنَامٍ لَهُ فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تِلاَدًا مِنْ تِلاَدِهِ فَهَذَا يُوَضِّحُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهَا، رضي الله عنها، فَرْضٌ، وَأَنَّ الْبِرَّ عَمَّنْ لَمْ يُوصِ فَرْضٌ، إذْ لَوْلاَ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَتْ مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِإِخْرَاجِهِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُوسًا يَقُولُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَمْ يُوصِ إِلاَّ وَأَهْلُهُ أَحَقُّ، أَوْ مُحِقُّونَ أَنْ يُوصُوا عَنْهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَعَرَضْت عَلَى ابْنِ طَاوُوس هَذَا وَقُلْت أَكَذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ، أَفَأُوصِي عَنْهَا فَقَالَ « نَعَمْ» وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَقَ، عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَلَمْ تُوصِ وَلِيدَةً وَتَصَدَّقَ عَنْهَا بِمَتَاعٍ» وَلاَ مُرْسَلَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَيْنِ

وقد تلقف المشرع المصري هذا القول وبنى عليه حكم الوصية الواجبة بقوة القانون، فنص في المادة من قانون الوصية رقم الصادر سنة «إذا لم يوص الميت لفرع ولده الذي مات في حياته أو معه ولو حكماً بمثل ما كان يستحقه هذا الولد ميراثاً في تركته لو كان حياً عند موته، وجبت للفرع وصية بقدر هذا النصيب في حدود الثلث بشرط أن يكون غير وارث، وألا يكون الميت قد أعطاه بغير عوض قدر ما يجب له، وإن كان ما أعطاه أقل وجبت الوصية بقدر ما يكمله، وتكون هذه الوصية لأهل الطبقة الأولى من أولاد البنات وأولاد الأبناء من أولاد الظهور وإن نزلوا على أن يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره ويقسم نصيب كل أصل على فرعه وإن نزل قسمة الميراث»

وقد يخطئ كثير من الناس في فهم هذا الأمر ويخلط بين الوصية وبين الميراث ويعتقد هؤلاء أن الأحفاد يرثون على خلاف ما هو معلوم بالضرورة من دين الله عز وجل من أن الأبناء يحجبون الأحفاد في الميراث وهذا الاعتقاد غير صحيح، فالقانون قد أوجب لهؤلاء الأحفاد وصية بناء على اجتهاد معتبر لبعض أهل العلم ولم يوجب لهم حقًا في الميراث على خلاف شرع الله عز وجل وقد سألت الشيخ صالح بن حميد حفظه الله عمن يقولون إن هذا القانون مخالف للشريعة فقال بل هو اجتهاد معتبر ولولي الأمر أن يلزم الناس باجتهاده الثلث والثلث كثير قال ابن عبد البر وأجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه إذا ترك ورثة من بنين أو عصبة واختلفوا إذا لم يترك بنين ولا عصبة ولا وارثًا بنسب أو نكاح، فقال ابن مسعود إذا كان كذلك جاز له أن يوصي بماله كله، وعن أبي موسى الأشعري مثله، وقال بقولهما قوم منهم مسروق وعبيدة السلماني وبه قال إسحاق بن راهويه واختلف في ذلك قول أحمد ذهب إليه جماعة من المتأخرين ممن يقول بقول زيد بن ثابت في هذه المسألة ومن حجتهم أن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء وهذا لا ورثة له فليس ممن عني به الحديث والله أعلم

وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا موسى أجاز وصية امرأة بمالها كله لم يكن لها وارث وعن الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال لي ابن مسعود إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت ولا يدع عصبة ولا رحما فما يمنعه إذا كان ذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين وعن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال «إذا مات الرجل وليس عليه دين لأحد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء» وعن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق مثله وقال زيد بن ثابت لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من ثلثه كان له بنون أو ورث كلالة أو ورثه جماعة المسلمين لأن بيت مالهم عصبة من لا عصبة له وبهذا القول قال جمهور أهل العلم وإليه ذهب جماعة فقهاء الأمصار

وأجمع فقهاء الأمصار أن الوصية بأكثر من الثلث إذا أجازها الورثة جازت وإن لم يجزها الورثة لم يجز منها إلا الثلث وقال أهل الظاهر إن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز أجازها الورثة أم لم يجيزوها، وهو قول عبد الرحمن بن كيسان وإلى هذا ذهب المزني لقول رسول الله لسعد حين قال له أوصي بشطر مالي؟ قال «لا» ولم يقل له إن أجازه ورثتك جاز، وكذلك قالوا إن الوصية للوارث لا تجوز أجازها الورثة أو لم يجيزوها لقول رسول الله «ولا وصية لوارث» وسائر الفقهاء يجيزون ذلك إذا أجازها الورثة ويجعلونها هبة مستأنفة من قبل الورثة في الوجهين جميعًا منهم مالك والليث والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، وفي قول رسول الله الثلث كثير« دليل على أنه الغاية التي إليها تنتهي الوصية وإن ذلك كثير في الوصية وأن التقصير عنه أفضل، ألا ترى إلى قول رسول الله بعقب قوله «الثلث كثير، «ولأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» فاستحب له الإبقاء لورثته وكره جماعة من أهل العلم الوصية بجميع الثلث ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال «إذا كان ورثته قليلاً وماله كثيرًا فلا بأس أن يبلغ الثلث في وصيته واستحب طائفة منهم الوصية بالربع روى ذلك عن ابن عباس وغيره

وقد روى عن أبي بكر الصديق أنه كان يفضل الوصية بالخمس وبذلك أوصى وقال رضيت لنفسي ما رضى الله لنفسه كأنه يعني خمس الغنائم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله قال «الثلث والثلث كثير» فليتهم نقصوا إلى الربع وقال قتادة الثلث كثير والقضاة يجيزونه والربع قصد وأوصى أبو بكر بالخمس الوصية للأقارب وغيرهم

قال في «التمهيد» ولا خلاف بين العلماء أن الوصية للأقارب أفضل من الوصية لغيرهم إذا لم يكونوا ورثة وكانوا في حاجة، وكذلك لا خلاف علمته بين العلماء في جواز وصية المسلم لقرابته الكفار لأنهم لا يرثونه وقد أوصت صفية بنت حيي لأخ لها يهودي، واختلفوا فيمن أوصى لغير قرابته وترك قرابته الذين لا يرثون، فروي عن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف، وروي عن عائشة أنها أوصت لمولاة لها بأثاث البيت، وروي عن سالم مثل ذلك قال الضحاك إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وقال طاووس من أوصى فسمى غير قرابته وترك قرابته محتاجين ردت وصيته على قرابته، ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه وهو مشهور عن طاووس، وروي عن الحسن البصري مثله، وقال الحسن أيضا وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته فإنه يرد إلى قرابته ثلثاً الثلث ويمضي ثلثه وقال مالك وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين أو غير محتاجين جاز ما صنع وبئسما فعل، وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عمر وعائشة وابن عباس وعطاء ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وجمهور أهل العلم واحتج الشافعي وغيره في جواز الوصية لغير الأقارب بحديث عمران بن حصين في الذي أعتق ستة أعبد له عند موته في مرضه لا مال له غيرهم فأقرع رسول الله بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة، فهذه وصية لهم في ثلثه لأن أفعال المريض كلها وصية في ثلثه وهم لا محالة من غير قرابته وحسبك بجماعة أهل الفقه والحديث يجيزون الوصية لغير القرابة وفي ذلك ما يبين لك المراد من معاني الكتاب وبالله العصمة والتوفيق

صيغة الوصية

أخرج عبد الرزاق بسند صحيح أن أنسًا رضي الله عنه قال كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به فلان بن فلان أن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثم يوصي بما يوصي به من مال والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تاريخ الاضافة: 13-10-2010
طباعة