عزاؤنا أنه خلف تراثاً نافعاً وتلامذة



الموت حقٌّ ويقين، ولهذا أمرنا الله - تعالى - أن نحرصَ على حُسْن العبادة حتى تنتهي حياتُنا الدنيا ويأتينا الموت؛ فقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، وقد حثَّنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الإكثار من ذكر الموت، حتى لا تغُرَّنا الحياة الدنيا بزينتها، فقال: ((أكثروا ذكرَ هادم اللذات))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اذكر الموت في صلاتك؛ فإن العبد إذا ذكر الموت في صلاته لحريٌّ أن يُحسن صلاته))؛ "صحيح الجامع". فيستفيد العبد من كثرة ذكره للموت أن يُحسن عبادته لله، وأن يحرص على حُسن أدائها وخشوعها، وأن يُحاسب نفسَه على ما بَدَرَ منها، وأن يُسارع إلى التوبة النصوح والتحلل من المظالم، واستغلال الأوقات في العمل الصالح الذي ينفع عند الممات.


 


والعلماء أكثر الناس معرفةً بحال الدنيا والآخرة، وعلى قدر العلم النافع يكون عملُ العالِم في الدنيا وعمله لما بعد الموت، فيعمل على تعلُّم العلم النافع ومدارسته، وحفظه والاستفادة منه في تصحيح الاعتقاد وتصحيح العمل، فيكون العالِم عارفًا بربِّه، يرجو رحمتَه ويخاف عذابَه، فيحقِّق الخشية من الله - تعالى - ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، ويكون العالم حريصًا على السُّنة، بعيدًا عن البدعة في أقواله وأعماله؛ ليكون عَملُه خالصًا لله، صوابًا موافقًا للسنة، وبهذا ينتفع العالم بعلمه في حياته.


 


العلم ينجي من الفتن ويعصم من الزلل:


فالعالم يكره أن يفتح على الناس أبوابَ الفتن، ويسعى لردِّهم إلى الحق، وفي "الصحيح": "قيل لأسامة بن زيد: ألاَ تُكلِّم هذا؟ وفي رواية: ألاَ تدخل على عثمان فتُكلِّمَه؟ فقال: أترون أني لا أُكلِّمُه إلاَّ أسمَعَكم؟ والله لقد كلَّمتُه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا لا أُحب أن أكون أولَ مَن فتَحَه..." الحديث.


 


وهذا سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - اعتزل الفتن، فجاءه ولدُه يلومُه على موقفه، فقال له سعد: سمعت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن الله يحب العبد التقيَّ النقيَّ الخفيَّ)).


 


والعالم - وطالب العلم كذلك - ينجو بعلمه من شبهات الشيطان، ولقد كان طلبةُ العلم من التابعين يأتون العلماء من الصحابة فيسألونهم عن كلِّ شبهة يُثيرها أهل الأهواء والبدع، فيدفعونها بالعلم النافع، ولهذا لمَّا وقعتْ بدعة القدرية، جاء يحيى بن يَعْمُر، وحميد بن عبدالرحمن، فسألا عبدَالله بن عمر، يقول يحيى بن يعمر: كان أولُ مَن تكلَّم في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن حاجَّينِ أو معتمرينِ، فقلنا: لو لَقِينا أحدًا من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسألْناه عما يقول هؤلاء، قال: فوفق لنا عبدُالله بن عمر... الحديث؛ رواه مسلم.


 


وابن الديلمي يقول: وقع في نفسي شيءٌ من هذا القدر خشيتُ منه على أمري وديني، فأتيتُ أُبَيَّ بن كعب، فقلت له: إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيت منه على أمري وديني، فهل عندك من علم ينفعني الله به؟ فأجاب أُبيُّ بن كعب بالعلم الذي يُزيل الشبهات... الحديث عند ابن ماجه.


 


والعالم ينتفع بعلمه عند موته، فهذا عُبادَةُ بنُ الصامت وقد حضرتْه الوفاةُ، وحوله تلامذتُه يبكون، فقال: ما يُبكيكم؟ والله ما من حديث سمعْتُه من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكم فيه خيرٌ إلاَّ حدَّثْتُكُمُوه إلاَّ حديثًا واحدًا، وسوف أُحدِّثكم به، وقد أُحِيط بنفسي: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، حرَّم الله عليه النار))؛ رواه مسلم.


 


وهذا أبو زَرْعةَ الرازي يدخل عليه عند موته أبو حاتم الرازي يُريد أن يُلقِّنه: لا إله إلا الله، فيأتي بالحديث مسندًا، فينغلق عليه، فيقول أبو زرعة: أقعِدُوني، فيُقعِدُونه، فيسوق الحديث بسنده إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((مَن كان آخرُ كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنة))، ثم تصعد روحه لخالقها، فكان آخر كلامه - رحمه الله - لا إله إلا الله.


 


وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتَفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)).



وقد رحل عن دنيانا شيخ جليل، وعالم متبحر في علوم الكتاب والسنة، ألاَ وهو فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، وبقدر ما أصابنا من الحزن لفقد الشيخ، وانقطاع هذا المَعِين من العلم النافع، فإننا لا نملك إلاَّ الرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وعزاؤنا أن الشيخ خَلَّف لنا تراثًا عظيمًا ننتفع به مقروءًا ومسموعًا، وخلَّف أجيالاً من التلامذة وطلبة العلم ينهلون من مَعينه، ويسيرون على نفس الخُطَى، وإذا كان العلم يُقبض بقبض العلماء؛ لقول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا))، فإن مصابَنا يهون أمام الرضا والتسليم، وطلب الزلفى عند الله، ويَبقى الأمل في أن يقوم طلابُه وإخوانُه بإكمال ما بدأه الشيخ من مناهجَ؛ تأليفًا وتدريسًا، حتى لا ينقطع العلم بموت الشيخ وأمثاله من العلماء، فتعظُمَ المصيبة، بل يبقى أهل الحق وأهل السنة ظاهرين بالحق لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم، حتى يأمر الله وهم على ذلك، وحتى ينزل المسيح عيسى ابن مريم فيقتل المسيح الدجال في آخر الزمان.



رحم الله الشيخ، وأسكنه فسيح جناته، وألحقَنا به على الإسلام والإيمان غير خزايا ولا ندامى ولا مفتونين، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.



تاريخ الاضافة: 13-10-2010
طباعة