« رحيل عامٍ وإقبال عام »






إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على طريقته وانتهج نهجه إلى يوم الدين، وعلى رسل الله أجمعين... أما بعد:

فهذا عام قد مضى والله سائله عنا، وهذا عام قد أتى فماذا نحن فاعلون فيه ؟!

تصرمت الأعوام عامًا بعد عام، ونحن في غفلةٍ ساهون، نشاهد بأعيننا مواقع المنايا، ويرحل عنا كل يوم بعض من كان بيننا يملأ الدنيا حياةً ويؤمل في الحياة.

فيا ليت شعري على أي شيء تُطوى صحائف الأعمال ؟ أَعَلى أعمال صالحة، وتوبة نصوحٍ صادقة ؟ أم على تفريط في حق ذي الجلال والإكرام ؟

كل يوم يمر علينا يدنينا من الآخرة، ويبعدنا عن الدنيا، كل يوم يدني من القبور، ويُبعد عن عامر الدور.

إنا لنفرحُ بالأيام نقطعها

وكلُ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ

فاعمل لنفسك قبلَ الموتِ مجتهدًا

فإنما الربحُ والخسرانُ في العمل

فلنتأمل أحوال الراحلين، ولنتعظ بمصارع الماضين لعل القلب القاسي يلين.

فلنحرص على صالح الأعمال، ونرجو الله أن يختم لنا بالعمل الصالح، ولنحرص على التوبة النصوح من الذنوب كلها، ولنحرص على التذلل والافتقار بين يدي الله عز وجل، ولنحرص على العمل للآخرة، ولنتأس بمن مضى من أسلافنا.

هذا الإمام الموفق ابن قدامة المقدسي صاحب المغني يقف أمام المرآة فيرى بياض الشيب في لحيته ورأسه فينشد شعرًا عذبًا يفيض بالرقة:

أَبَعْدَ بَيَاضِ الشَّعْرِ أَعْمُرُ مَنْزِلاً

سِوَى القَبْرِ إِني إنْ فعلتُ لأَحْمَقُ

يُذَكِّرُنِي شَيْبِي بِأَنِّي مَيِّتٌ

وَشِيكًا وَيَنْعانِي إليَّ فَيَصْدُقُ

وهذا الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني يذكر الرحيل فيقول:

قَرُبَ الرحيلُ إلى ديار الآخرة

فاجعل بفضلك خَيرَ عُمْري آخره

وارحم مَقِيلِي في القبورِ وَوَحْشَتِي

وارحم عِظامي حين تبقى ناخرة

وقفات للمحاسبة

لا بد للعاقل أن يوقف نفسه للمحاسبة قبل حلول الأجل، فالموت يأتي بغتة وبدون مقدمات، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (19) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) {الحشر: 18- 20}.

فالكَيِّسُ من دان نفسه؛ أي حاسبها، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

والعاقل يتصفح في ليله ما صدر منه من أعمال في نهاره، فإن كان عمله محمودًا مرضيًا حمد الله تعالى واستمر عليه، وإن كان مذمومًا رجع عنه واستدركه بعمل صالح محمود، فيحاسب العبد نفسه على التقصير في الطاعات، ويحاسب نفسه على الإقدام على المعاصي والمحرمات، بل يحاسب نفسه على كل عمل تسرع فيه بحيث كان تركه خيرًا له من فعله، وهذا يشمل المكروهات فضلا عن المحرمات، ويحاسب نفسه على الأمور المباحة والمعتادة، لِمَ فعلها؟ هل أراد بها وجه الله والدار الآخرة؟ أم أراد بها الدنيا؟ وجماع ذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان": أن يحاسب نفسه على الفرائض، فإن وجد فيها نقصًا سعى لتداركه، إما بقضاء أو إصلاح مع التوبة، ثم يحاسب نفسه على النواهي، ويعمل على استدراك ما وقع فيه منها بالتوبة والاستغفار والتحلل من المظالم، وأن يكثر من الحسنات التي تمحو آثار السيئات كما قال تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) {هود: 114}.

ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تدارك ذلك بالإكثار من ذكر الله والإقبال على طاعته، ثم يحاسب نفسه على الأعمال المباحة، ما تكلم به لسانه، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعت أذناه، ماذا أراد بهذا؟، ولأجل من فَعَلَه؟ هل أراد به وجه الله؟: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).

فإذا اعتاد الإنسان المحاسبة في كل حين، استطاع أن يسيطر على نفسه قبل الهم بالعمل فيوقفها ويسألها، كما قال الحسن البصري: رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغير الله تأخر.

فإذا حاسب الإنسان نفسه، وتدارك خطأه، أصاب الحق في كل أقواله وأفعاله، وكان حسابه يسيرًا يوم القيامة، ولهذا أثر عن عمر رضي الله عنه قوله: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية".

ولقد كان عمر يحاسب نفسه ويقول: عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، والله لتتقين الله أو ليعذبنك.

حال الأمة في عام مضى

الذي ينظر إلى حال الأمة يراها تتردى في هاوية التفريط والتضييع، تسلط عليها أعداؤها، وتداعوا عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، مع أن كل وسائل القوة والعزة متاحة لهذه الأمة إلا أنها تعجز عن الأخذ بهذه الوسائل، تعجز عن الاتحاد، وتأبى إلا الفرقة، في كل عام يزداد جرح هذه الأمة ودماؤها تنزف في مشارق الأرض ومغاربها، في كشمير وفي الشيشان وفي أفغانستان وفي فلسطين وفي العراق ومنطقة الخليج.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا: أو من قلةٍ نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت". رواه أحمد.

ما أحوج هذه الأمة إلى الاعتصام بالله، بدينه، بشرعه لتكون خير أمة أُخرجت للناس كما أراد لها ذو الجلال والإكرام (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (101) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108) ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109) كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) {آل عمران:100 - 111}.

اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم نصرك وتأييدك الذي وعدت، اللهم كما نصرت موسى وأغرقت فرعون وملأه يوم عاشوراء فانصرنا، اللهم كما نصرت نبيك يوم الهجرة وحدك انصر أمته فلا ناصر لها سواك ولا عاصم لها غيرك، اللهم أنزل سكينتك علينا، وأيدنا بجند من عندك وأمدنا بمدد من عندك.

(إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) {التوبة:40}.



» تاريخ النشر: 13-10-2010
» تاريخ الحفظ: 28-03-2024
» الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ د. جمال المراكبي
.:: http://almarakby.com/web/ ::.