الجهاد في سبيل الله - 2



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:


تحدثنا في المقال السابق عن الجهادِ في سبيل الله - تعالى -: مراتبه، وأولوياته، وعن أسباب النَّصر والهزيمة، وكذلك التربية والإعداد قبل الجهاد، وحكم الجهاد، ومتى يتعين.


 


واليوم نكمل - إن شاء الله - فنقول مستعينين بالله:


حكمة تشريع الجهاد:


للجهاد فوائد كثيرة، وحكم جليلة منها:


1- إظهار دين الله وإعزاز المسلمين وقمع الكافرين؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 9].


 


2- كسر شوكة المشركين، وتحقيق الأمن للمسلمين؛ قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 193]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليُتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من بُصرى إلى صنعاء لا يخشى إلا الله)).


 


3- تَمكين المسلمين من القيام بمصالح دينهم ودنياهم، ودعوة غير المسلمين لما فيه خير الدنيا والآخرة.


 


روى البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - من حديث جبير بن حبة، قال: "فندبنا عمر، واستعمل علينا النُّعمان بن مقرن، حتى إذا كنَّا بأرض العدو، وخرج علينا عاملُ كسرى في أربعين ألفًا، فقام ترجمان، فقال: ليكلمني رجلٌ منكم، فقال المغيرة: سل عما شئت، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمصُّ الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك، إذْ بعث ربُّ السموات ورب الأرضين - تعالى ذكرُه وجلَّت عظمته - إلينا نبيًّا من أنفسنا، نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسولُ ربنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن نقاتلكم؛ حتى تعبدوا الله وحْدَه، أو تؤدُّوا الجزية، وأخبرنا نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن رسالة ربِّنا أنه مَن قُتِلَ منَّا صار إلى الجنة في نعيم لم يُر مثله قط، ومن بَقِيَ منا ملك رقابكم"؛ (ح: 3159).


 


فضل الجهاد:


الجهاد خير العمل، وذِرْوة سنام الإسلام.


والنصوص في فضل الجهاد والمجاهدين أكثر من أن تحصى:


1- قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].


 


2- وقال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 95 - 96].


 


3- وقال تعالى: ﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 74].


 


4- وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصف: 10 - 13].


 


أما عن الأحاديث فهي كثيرة، نشير إلى طرف منها:


1- سُئِل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور))؛ متفق عليه.


 


2- وقال رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِروة سنامه الجهاد في سبيل الله))؛ الترمذي.


 


3- وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ في الجنة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كلِّ درجتين كما بين السَّماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنَّه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرَّحمن منه تفجر أنهار الجنة))؛ رواه البخاري.


 


4- جاء رجل إلى رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: ((لا أجده، هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟))، قال: ومن يستطيع ذلك؟!


 


إعداد العدة للجهاد:


الجهاد بمعناه العام يستلزم وحدة الصف المسلم والاعتصام بحبل الله جميعًا، والعودة إلى صحيح الدين ونبذ البدع المضلة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101]، وقال: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].


 


وقال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 2 - 4].


 


فربط المولى - تبارك وتعالى - في هذه السُّورة بين النَّصر ووحدة الصف، وأي تصوُّر للجهاد من دون الصف والوحدة وإعداد العُدَّة - وَهْمٌ وخيال؛ ولهذا أمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بلزوم الجماعة، ونبذ كلِّ سبيل إلى الفُرقة، فإن لم تكن جماعة ولا إمام، كان الأمر باعتزال الفرقاء والعضُّ على السنة بالنواجذ حتى الموت.


 


وقد ورد ذلك في حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: "كان الناس يسألون رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مَخافةَ أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: ((نعم))، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن))، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنون بغير سُنَّتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر))، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا))، قلت: يا رسول الله، ما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أنْ تَعَضَّ على أصل شجرة حتَّى يدركك الموت وأنت على ذلك))؛ متفق عليه، واللفظ لمسلم.


 


ولهذا كان من أصولِ أهل السُّنة والجماعة الجهاد مع كل إمام، برًّا كان أم فاجرًا، وإلاَّ عمَّت المفسدة بترك الجهاد وتفرُّق المسلمين.


 


وفي الحديث الصحيح: ((الإمام جُنة يقاتل من ورائه ويُتقى به، فإنْ أمر بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - وعَدَلَ، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه))؛ مسلم.


 


فالإمام جنة؛ أي: ستر، يَمنع العدو من أذى المسلمين، ويَمنع الناس بعضهم من بعض، ويَحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس، ويَخافون سطوته، ويقاتلون معه الكفار والبُغاة والخوارج وسائر أهل الفساد، وينصرون عليهم، ويُتَّقى به شر العدو، وشر أهل الفساد والظلم مطلقًا.


 


ماذا لو تركت الأمة الجهاد في سبيل الله؟


لو تركت الأُمَّة الجهاد في سبيل الله، فرطت في أهمِّ أسباب العز والغلبة، وجعل الله بأسَها بينها شديدًا، وسلَّط عليها من يسومها سوء العذاب، وتداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التوبة: 38 - 39].


 


وقال رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا ضَنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتَبايَعوا بالعِينَة، واتَّبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله - أدخل الله عليهم ذُلاًّ لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم))؛ صحيح الجامع.


 


وفي رواية: ((لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعِينَة، ليلزمنَّكم الله مَذَلَّة في رقابكم لا تنفكُّ عنكم حتى تتوبوا إلى الله، وترجعوا إلى ما كنتم عليه))؛ رواه أحمد وأبو داود والطبراني، وصححه الألباني في صحيح الجامع.


 


وقال رسول اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يوشك أنْ تَدَاعى عليكم الأمم، كما تَدَاعى الأكلة إلى قصعتها))، قالوا: أو من قلة نحن يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة من قلوب عدوكم، وليجعلنَّ في قلوبكم الوهن))، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حُبُّ الدُّنيا وكراهية الموت))؛ رواه أحمد.



تاريخ الاضافة: 13-10-2010
طباعة