الحج ركن ركين من أركان هذا الدين ولهذا فرضه الله عز وجل في كتابه العزيز فقال: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس وذكر منها: وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً".ولقد تأخر فرض الحج عن سائر الفرائض فلما حج رسول الله وأصحابه نزل عليه: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، فلا يكمل دين المسلم إلا بحج بيت الله الحرام إن كان مستطيعاً.
ولا يزال الناس يحجون منذ عرف الناس البيت وإلى أن يشاء الله تعالى ، قال - صلى الله عليه وسلم - "ليحجن هذا البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج". {صحيح الجامع 5361}.
فإذا قبض الله أرواح المؤمنين في آخر الزمان ولم يبق على الأرض إلا شرار الخلق توقف الحج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت". {صحيح الجامع 7419}.
ولهذا وجب على كل مستطيع أن يتعجل الحج، وأن يحرص على أن يكون حجه صحيحاً مبروراً ، والصحيح ما كان لله ، يبتغي به الحاج وجه الله و كان على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : خذوا عني مناسككم".
والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"؛ متفق عليه.
وهو يعدل الجهاد في سبيل الله فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور". البخاري كتاب الحج حديث رقم 1423.
وعند النسائي :" جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة " (ك مناسك الحج باب فضل الحج حديث 2579).
وهو من أفضل القربات فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: "ثم ماذا؟" قال: "حج مبرور". متفق عليه.
وروى أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : إيمان بالله وحده ثم الجهاد ثم حجة بَرة تفضل سائر الأعمال ما بين مطلع الشمس إلى مغربها) حم15831 وصححه الألباني في صحيح الترغيب1103.
وهو سبب لغفران الذنوب فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجح كيوم ولدته أمه". البخاري 1424.
وقال - صلى الله عليه وسلم - " الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم". {ابن ماجه ح2883 ، النسائي 2578 – 3020.
وقال: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد". حم 162.
وروى أحمد بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" إذا لقيت الحاج فسلم عليه وصافحه ومُرْهُ أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته فإنه مغفور له "(حـ 5116) ويشهد لمعناه ما رواه مسلم في قصة أويس القرني مع رجل من قبيلته حين قال له : استغفر لي فقال له : أنت حديث عهد بنسك.
الحاج الذي لم يحج:
إذا كان هذا فضل الحج الذي لا ينكر فهل ينال هذا الأجر كل من لبس ملابس الإحرام وسافر إلى بيت الله الحرام ووقف بعرفه وبات بمنى ومزدلفة ووقف عند المشعر الحرام وفعل ما يفعله الناس وأفاض من حيث أفاض الناس أم أن هناك من الحجيج من يصلح أن يقال لهم :(حجوا فإنكم لم تحجوا) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته: (صل فإنك لم تصل) متفق عليه.
فمن حج بمال حرام وحرص على أكل أموال الناس بالباطل ولم يترك ذنباً إلا وفعله ومن شغل لسانه بالغيبة والنميمة وأكل لحوم المؤمنين فهل ينفعه حجه ! أمن هو ممن قال الله فيه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
وإذا كان الحاج يحرم عليه حال إحرامه الرفث فإذا وقع في الرفث بجماع زوجته فسد حجه باتفاق أهل العلم ، وأمر أن يتم نسكه مع فساده وأن يقضي حجه في عام قابل مع أن جماع الزوجة أصله حلال فكيف بمن أسرف على نفسه في الموبقات حال الحج وقبله وبعده فهل ينفع هذا حجه.
إن الحج من الأعمال الظاهرة التي لا يملك العبد أن يخفيها عن الناس ومثل هذه الأعمال التي تكثر فيها المباهاة ويقل فيها الإخلاص ويفشوا فيها الرياء والسمعة ويصاحبها العجب يكون الإخلاص فيها عزيزاً ولا يبلغه إلا من جاهد نفسه في طاعة الله حتى إن نبينا صلى الله عليه وسلم لما ركب ناقته وأهل بالحج سأل ربه عز وجل أن يجعل حجه خالصاً لوجهه الكريم فقال: (اللهم حجه لا رياء فيها ولا سمعه).
ولا يصح الحج إلا بتمام متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الشروط والأركان حيث قال (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) وقال: (خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
فما هو البر؟ وكيف يكون الحج مبروراً؟
ورد البر في النصوص الشرعية بإطلاقين:
أولها: فعل الطاعات كلها من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإعطاء المال للفقراء والمساكين ، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود، والصبر على البلاء كما في قول الله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]
والحاج يحتاج إلى هذه الأمور كلها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان ، ولا يكمل حجه ويكون مبروراً بدون اقام الصلاة وايتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضها مرتبط ببعض ، ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود التي يلتزم بها الحاج مثل تأشيرة الدخول وتأشيرة الحج وعدم التضييق على الحجيج في الطرقات ونحو ذلك.وكذلك يحتاج الحاج إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في سفر الحج فلا يخرجه ذلك عن حسن الصحبة والعشرة لرفقائه.
ثانيها: حسن الخلق، وقد ورد هذا مرفوعاً في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال(البر حسن الخلق) ولا شك أن حسن الخلق من تمام الإيمان وكماله ومن أفضل العمل الصالح الذي يفضي إلى الجنة فأكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بر الحج فقال (إطعام الطعام وطيب الكلام وإفشاء السلام) وكان ابن عمر يقول (إن البر شئ هين وجه طليق وكلام لين) وبالجملة فإنه يشمل معاملة الناس بخلق حسن وهذا يحتاج إليه الناس في الحج كثيرا حتى قال بعضهم (إنما سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال).
فهذا هو الحج المبرور الذي جعل الله ثوابه الجنة.
فيامن سافرت إلى بلد الله الحرام وتلبست بأعمال الحج ولبست ملابس الإحرام سل نفسك هل حججت حقا؟
وهل ترجوا أن يكون حجك مبروراً؟
أم تكتفي بأن يكون حجك ظاهرا أمام الناس؟
الصنف الآخر من الناس من عجز عن الحج فلم يسافر إلى بيت الله الحرام ولم يتلبس بأعمال الحج ومع ذلك فقد نال ثواب الحج كاملاً وربما حصل على أعلى وأعظم من ثواب الحج وهؤلاء هم الذين يلحقون من سبقهم ويسبقون غيرهم ولم يدركهم أحد بعدهم إنهم هم الموفقون حقا.
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ قَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ.
البخاري كتاب الآذان رقم 798 باب الذكر بعد الصلاة.
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء من أصحابه أنهم بهذا الذكر اليسير يحرزون الدرجات العلا والأجر الكبير كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أونبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال: ذكر الله)). رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح.
ولما كان الحج من أفضل الأعمال والنفوس تتوق إليه لما جعل الله في القلوب من الحنين إلى بيت الله الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً تهفوا النفوس وتشتاق القلوب ويعاودها الحنين إليه ، ولما كان كثير من الناس يعجز عنه ولاسيما في كل عام فقد شرع الله لعبادة أعمالا يسيرة يبلغ أجرها أجر الحج فيعتاض بذلك العاجزون عن التطوع بالحج والعمرة.
1- فمن صلى الصبح في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان له مثل أجر حجه وعمره تامة تامة تامة. رواه الترمذي وحسنه الألباني في الصحيحة رقم 3403 .
2- ومن بكر إلى الجمعة فراح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه , والبدنه: هي الناقة التي تهدى إلى بيت الله الحرام في الحج والعمرة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فكأنما قرب بدنه) ولم يقل فكأنما تصدق بناقة. فليست كل ناقة بدنه.
لهذا المعنى ذهب بعض السلف إلى أن شهود الجمعة يعدل في الأجر حج النافلة.
قال سعيد بن المسيب: (هو أحب إلي من حجة النافلة).
ويروى بسند ضعيف (الجمعة حج المساكين) فطوبى لمن حج في الشهر أربع مرات وفي العام أكثر من خمسين مرة مع أنه لم يسافر إلى بيت الله الحرام ولم يتجشم أعباء السفر الجسام خاصة إذا حرص على الاغتسال للجمعة واحتسب خطواته إليها وراح في الساعات الأولى وسبق إلى الصف الأول ودنا من الأمام فاستمع وأنصت ولم يلغ كما جاء في الحديث (من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة صيامها وقيامها).
فإذا كان هذا الأجر لمن شهد الجمعة وأنصت للموعظة، فكيف بأجر الإمام الواعظ الذي يقوم في المصلين في مقام النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخلص النية ، ووافق السنة.
3- ولقد ورد في الفضل ما هو أعظم من ذلك فمن تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد لأداء الصلاة في جماعة فقد نال مثل أجر الحاج وقد ورد هذا في حديث مرفوع: (من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد لأداء صلاة مكتوبة فأجره مثل أجر الحاج المحرم، ومن خرج لصلاة الضحى كان له مثل أجر المعتمر) . رواه أبو داود وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
4- وصوم يوم عرفة يكفر سنتين سنة ماضية وسنة باقية كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان المرجو من الحج غفران الذنوب فإن صيام هذا اليوم كفارة للذنوب.
فأين المسارعون إلى الخيرات؟ وأين السابقون إلى القربات؟
والله تبارك وتعالى يقول: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 133- 136].
وقال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
ومع كل هذا الفضل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليربت به على قلوب الفقراء فتطيب به ،فإن منهج المتسابقين إلى الخيرات والمسارعين إلى القربات يملأ قلوب المؤمنين شوقاً وحسرتاً وألماً وحزناً على كل خير فاتهم ويغبطون ويحسدون من سبقهم إليه.
لقد كان الأغنياء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوظفون أموالهم في سبيل الله ، وكان فقراء الصحابة كلما رأوا أصحاب الأموال منهم ينفقون في هذة القربات يصيبهم الحزن لأنهم لا يجدون ما ينفقون ولقد ذكرهم الله في كتابه ومدحهم بهذا فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 91- 92].
حتى قال بعض أهل العلم هذا والله بكاء الرجال بكوا على فقدهم وسائل تحملهم إلى الموت في سبيل الله لأنهم لا يريدون إلا وجه الله لأجل هذا عوضهم الله تبارك وتعالى بالنية الصادقة الخالصة ثواب العاملين لما علم صدقهم واختبر أحوالهم فأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم شاركوا المجاهدين في أجورهم.
فقال تعالى عن المجاهدين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120- 121].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الفقراء الذين حرموا هذا الجهاد(إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيرا ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم في الأجر حبسهم العذر) متفق عليه.
وإذا كان أهل الفضل يتنافسون في الخيرات ويتسابقون في القربات أذن الله لهم أن يغبطوا بعضهم بعضاً وأن يحسد بعضهم بعضاً حسداً محموداً يتشاركون به في الأجر وإذا خلصت النوايا وصدق الصادقون.
(لا حسد إلا في اثنتين رجل اتاه الله مالا فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار ورجل اتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار) متفق عليه
ويشارك هذين في الفضل رجل صادق النية يقول: (لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل) البخاري (7232).
عن أَبُي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنه وكرمة أن يرزقنا حج بيت الله الحرام وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة وسلم.