الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على طريقته وانتهج نهجه إلى يوم الدين وعلى رسل الله أجمعين، أما بعد: فإن أعظم نعمة منَّ الله بها علينا بعثة النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ختم به النبيين، وأرسله رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرًا تحقيقا لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. وتتجلى هذه النعمة وهذه المنة بالنظر إلى حال أهل الدين والإيمان قبل بعثته، وبعد بعثته -صلى الله عليه وسلم-. فلقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، فأكمل الله تعالى به بنيان النبوة وانتظم عقدها، وفي ذلك تمام النعمة وكمال الدين وإظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»[متفق عليه] وقد جعل المولى تبارك وتعالى الكتاب الذي أنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم- حَكَمًا ومُهَيْمِنًا على ما أنزل من وحيه على النبيين من قبله، وجعل شرعه ناسخًا لشرائع النبيين من قبله، وجعله تامًا كاملا بينًا فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3]. والإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، أتمه الله وأكمله لعباده على لسان خاتم رسله، ولم يرض من أحد عبوديةً لسواه فقال {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19]. وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. ولا يعذر أحد من البشر أعرض عن هذا الدين بعد بلوغه إياه ولا يقبل منه إلا أن يكون من المؤمنين كما قال نبينا -صلى الله عليه وسلم- : «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ـ يعني أمة الدعوة، وهو كل من بلغته هذه الدعوة ـ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرْسِلْتُ به إلا كان من أصحاب النار». [مسلم ك الإيمان ح240] إظهار الدين وقد أظهر الله دينه، وأعز المؤمنين من عباده بنصر هذا النبي وتأييده، بما لم يكن للأنبياء والمرسلين من قبله فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام بعد أن أقام الحجة على قومه، لم يؤمن له إلا زوجته سارة، وابن أخيه لوط قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]. وهذا كليم الله موسى يدعو قومه إلى الجهاد في سبيل الله فيقول له قومه {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وهذا كلمةُ اللهِ المسيحُ عيسى بنُ مريمَ يدعو بني إسرائيل إلى الإيمان به ويبشرهم ببعثة النبي الخاتم الذي يتم الظهور على يديه فيقول: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. لقد كان حال المؤمنين قبل بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- في غاية الضعف ولم يعرف بنو إسرائيل التمكين إلا في ملك داود وسليمان ثم كان المؤمنون يتواصون بالإيمان ببعثة النبي الخاتم ويبشرون به لما أخذ الله العهد عليهم وعلى أنبيائهم بالإيمان به ونصره كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. وقد عبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حال الناس قبل بعثته فقال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب».[مسلم ك الجنة ح2865] وكانت هذه البقايا من أهل الإيمان ـ وعددهم لا يكاد يذكر ـ تعيش في عالم مقيت قد أطبق أهله على الشرك والظلم والجاهلية ومن يطالع قصة سلمان الفارسي قبل إسلامه يعلم أن بعض قساوسة النصارى كانوا على الحق، بينما كان غيرهم في جاهلية وشر، وكان من أهل الحق في جزيرة العرب زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، ولكن هؤلاء جميعا لم يكونوا ظاهرين بالدين ولم يُظهر الله الدين على الدين كله إلا بنصر محمدٍ بن عبد الله رسول الله إلى الناس كافة. حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل هذا كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- حقوقٌ على الناس، من هذه الحقوق: وجوب الإيمان به ووجوب طاعته واتباع هديه وسنته. قال ربنا عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. ومن هذه الحقوق التي للنبي -صلى الله عليه وسلم- لزوم محبته -صلى الله عليه وسلم- وتقديم محبته على محبة المال والأهل والوالد والولد والنفس لأن محبته من محبة الله عز وجل. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا المعنى في قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».[متفق عليه] فانظر أخي الكريم هل يوجد شخص يجب على كل مؤمن أن يحبه أكثر من محبته لنفسه وللناس أجمعين إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وما ذلك إلا لأنه أولى بكل مؤمن من نفسه كما قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] ويلزم من هذه الأولوية تمام الحب والطاعة والانقياد ومحبة النبي-صلى الله عليه وسلم- فرع عن محبة الله عز وجل لأنه هو الذي بعثه واصطفاه، وليس للخلق محبة أعظم ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود من يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى، وكل ما يحب بعد الله عز وجل فمحبته تبع لحب الله عز وجل ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يُحَب لأجل الله، ويُطاع لأجل الله، ويتبع لأجل الله عز وجل. ومن حقوق النبي -صلى الله عليه وسلم- على العباد وجوب طاعته واتباع هديه وسنته، ونحن لا نكاد نعرف بشرًا أوجب الله على العباد أن يتخذوه أسوة وقدوة غير محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه -صلى الله عليه وسلم- اقتدى بإخوانه من النبيين والمرسلين الذين هداهم الله واصطفاهم، فصار بذلك مجمع الأسوة والقدوة، ويسر الله عز وجل للأمة فنقلت هديه وشمائله وأخلاقه لكي يقتدي به كل مؤمن، فهذا بلال بن رباح مؤذن النبي -صلى الله عليه وسلم- تحضره الوفاة، فتقول امرأته: واكرباه فيقول بلال: وافرحاه، غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه. فمزج مرارة سكرات الموت بحلاوة الشوق إلى لقاء الأحبة ولله عز وجل في قلب المؤمن من المحبة والطاعة والتعظيم والشوق إلى لقائه وجنته أعظم لأي أحد، ولهذا علمنا حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن نقول في صلاتنا: «ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين». [النسائي وأحمد] ومما يجب علينا تجاه النبي الخاتم أن نعرف له قدره ومنزلته عند الله فيكون في قلوبنا معظمًا موقرًا فلا نتقدم بين يدي الله ورسوله في شيء من الأمور بل نكون تابعين مستسلمين وأن نغض أصواتنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وألا نجهر له بالقول كجهر بعضنا لبعض، وقد كان سادات المتقين يراعون ذلك في الحديث عنه والرواية عنه صلوات ربي وسلامه عليه. إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إن رجلا هذا حاله، وهذه درجته ومنزلته لابد أن يقدره قدره كل منصف، ولهذا كان المنصفون من الناس يعرفون له هذا القدر وهذا التأثير العظيم في تاريخ البشرية، حتى من لم يفتح الله للهداية قلبه من غير المسلمين إن كان منصفًا فإنه لا يملك ألا أن يعلن تقديره لهذه الشخصية العظيمة الأثر في التاريخ البشرى كله، وكتابات المنصفين من غير المسلمين كثيرة فهذا كاتب أميركي يكتب عن العظماء في تاريخ البشرية، ومعيار العظمة عنده القدرة على التأثير والتغيير في المجتمع البشري فيدون كتابه مائة شخص أثروا في تاريخ البشر، فيرى أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الأول والأعظم تأثيرًا على مر العصور ويجعل في المرتبة الثانية بولس الذي أسس دين النصرانية المبدل، ويجعل المسيح في المرتبة الثالثة ويربطه بالثاني لأن الدين عندهم يرجع إلى جهود الثاني، والنصارى في العالم اليوم يدينون بما سطره لهم هذا المبدل، فمحمد -صلى الله عليه وسلم- غير شكل الأرض وأثر في أهلها حتى إن أكثر من مليار مسلم يعظمونه وبولس غير شكل الأرض وأثر في أهلها حتى إن أكثر من مليار مسيحي يتابعونه، ولكن شتان بين من غير دين المسيح وبدله وتحالف مع الشيطان الرجيم لإضلال أهل الأرض، وبين من بشر به المسيح فأحيا دعوة النبيين والمرسلين وأظهر الله به الدين. هذا هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما يراه كل عاقل منصف، آمن به أم لم يؤمن، ولكن السفهاء من الناس الذين استحوذ عليهم الشيطان يأبون هذا الإنصاف، ويدفعهم التعصب المقيت للنيل من مقام الرسول ومحاولة الطعن فيه، يدفعهم إلى هذا المنهج شياطين من الإنس والجن فتعمى أبصارهم بعد أن عميت منهم القلوب والبصائر، فنراهم يقلبون حقائق الأمور، فالجهاد في سبيل الله وإظهار دين الله عز وجل على الدين كله يراه أولئك نشرًا للدين بالسيف وإكراها للناس على الإيمان، وينسون أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه قول الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256] وينسون أن واقعهم في تكذيبه وعدم الإيمان به ينفي شبهة الإكراه، ولو أكره النبي-صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده الناس فكيف بقي هؤلاء علي دينهم في ذمة أهل الإسلام وفي حمايتهم، ولكنهم يسوءهم أن يعز الله دينه ورسوله فيخبطون ويكذبون. لقد رأينا تلك الفزعة التي هزت المسلمين على اختلاف ألوانهم وألسنتهم حين نشر بعض السفهاء رسومًا كاريكاتيرية يسيئون فيها لمقام خاتم النبيين صلوات ربي وسلامه عليه وكيف غضب المسلمون، ودعوا إلى مقاطعة اقتصاديات الباغين المعتدين في الدنمارك والنرويج وغيرهما ممن أساء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولقد أثرت تلك الغضبة في الناس تأثيرًا عجيبًا، فحملت المخالفين على الدهشة والعجب وفتحت الباب للمغيبين من غير المسلمين ليروا عظمة هذا النبي ومدى تأثيره في أمة ظنوا أنها ماتت من قرون طويلة ولكنها بفضل الله لن تموت وفيها طائفة تتمسك بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحيي سنته، ولاشك أن الكثيرين من المغيبين ستتغير فكرتهم عن هذا الدين وهذا النبي وقد يفتح الله لهم أبواب الهداية، ورب ضارة نافعة ولكنها أيضا زادت من حدة السفاهة لدى السفهاء الذين يزعمون أنها الحرية، حتى رأينا بعض هؤلاء السفهاء يتصرف بغير عقل أو وعي، وتنتقل عدوى السفاهة عبر القارة الأوربية وتتسلل إلى بعض وسائل الإعلام العربية، ولكن خوف الناس من غضبة المسلمين ويقظة المسلمين مازال غالبا ولله الحمد. وبالأمس القريب قام وزير إيطالي سفيه يهدد بنشر الرسوم المسيئة لا في صحيفة ولا في لوحة ولكن برسمها على قميص يرتديه، ولكن رئيس الوزراء الإيطالي طالب بعزله، فقدم هذا السفيه استقالته. ولأجل هذا السفيه قامت مظاهرة في ليبيا أحرق المتظاهرون جزءًا من القنصلية الإيطالية ببنغازي وقتل عشرة وفي أوروبا بدأ المفكرون والساسة يعلنون أن أوروبا تواجه أزمة في هويتها بسبب غلبة العلمانية وتنكرها للمسيحية وكثرة الوافدين من المسلمين إليها حتى قال بعضهم إن الشعب الإنجليزي أدار ظهره للمسيحية، وقال البعض إن المسلمين سيصبحون أغلبية في هولندا في سنة 0302م وهذا الذي يخشونه ويخافون منه سيتحقق بإذن الله عز وجل وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتن والملاحم تؤكد ذلك. المهم أن نستثمر هذه الغضبة في تحقيق اليقظة وترك الغفلة، إذا كانت المقاطعة تؤلمهم، والمظاهرات تغضبهم، فإن أعظم من ذلك نكاية فيهم أن نكون على هدي الحبيب وأن نحيي سنته فبها تستيقظ هذه الأمة من سباتها. وما ذلك على الله بعزيز. والله من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل. |