الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن-صلي الله عليه وسلم- من فقه التعبد أن يبادر المؤمن إلى الأعمال الصالحة ، قبل أن يأتي عليه زمان يتمنى العمل ولا يتمكن من فعله. قال رسول اللَّه -صلي الله عليه وسلم-: [ بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي الرجل مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا]. [ أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان (118) ، والترمذي كتاب الفتن (2195) ، وأحمد ] . قال النووي : معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل ، ووصف النبي -صلي الله عليه وسلم- نوعًا من شدائد تلك الفتن وهو أنه يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا ، وهذا لعظم الفتن ، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب . وقال شارح الترمذي : وحاصل المعنى : تعجلوا بالأعمال الصالحة قبل مجيء الفتن المظلمة من القتل والنهب والاختلاف بين المسلمين في أمر الدنيا والدين ، فإنكم لا تطيقون الأعمال على وجه الكمال فيها . وقد ورد في صحيح مسلم بيان هذه الفتن التي تحول دون العمل الصالح والأمر بالمبادرة بالأعمال الصالحة قبل حلول الفتن في آخر الزمان ، وذلك في حديث أبي هريرة عن النبي -صلي الله عليه وسلم- : [ بادروا بالأعمال ستًّا : طلوع الشمس من مغربها أو الدخان أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم أو أمر العامة ] . [ أخرجه مسلم ، كتاب الفتن (2947) ، وابن ماجه كتاب الفتن (4056) ، وأحمد ] . ولا شك أن هذه الفتن العظام في آخر الزمان تحول بين العبد وبين الأعمال الصالحة ، وغالبًا ما تكون هذه الفتن مهلكة لا ينجو منها إلا عبد وفَّقه اللَّه تعالى ، وعصمه بالإيمان واليقين ، وحِرْصُ العبد على الخيرات والمبادرة بالطاعات دون تسويف من توفيق اللَّه تعالى ، فمن وفقه اللَّه أولاً وفقه آخرًا ولا ريب ، وهذه الفتن العظام عامة في كل من يدركها ، وحتى من لا يدركها سوف يأتيه ما يشغله من خاصة نفسه ، كالمرض ، والهرم ، ومشاغل الحياة ، ثم الموت ، وقد نقل النووي تفسير جملة : أو خاصة أحدكم بأنها الموت يأتي فيحول بين المرء وبين العمل حتى يتمنى المرء أن يرجع إلى الدنيا ليتمكن من عمل صالح طالما أعرض عنه في دار الدنيا . قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 99، 100 ] . وقال تعالى : { وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ المنافقون : 10، 11 ] . -صلي الله عليه وسلم- ومن فقه التعبد أن يحرص المؤمن على أن تكون حياته كلها في طاعة ربه ومرضاته ، حتى أمور العادات والمباحات يُحَولها بالنية الخالصة وباحتساب الثواب إلى عمل صالح يثاب عليه ، فيأكل ليتقوى على طاعة ربه وليحفظ نفسه ، ممتثلاً قول اللَّه تعالى : {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [الأعراف : 31 ] . ويطعم أهله محتسبًا أجر ذلك عند اللَّه كما قال النبي -صلي الله عليه وسلم- لسعد: [إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فِي امرأتك ]. ويمشي إلى الطاعة محتسبًا أجر الخطى ، ترفع كل واحدة منها درجة وتحط خطيئة ويكتسب بها حسنة ، وينام محتسبًا نومته كما يحتسب قيامه من الليل سواءً بسواء ، وقد جلس معاذ بن جبل مع أبي موسى الأشعري باليمن يتذاكران العبادة وقيام الليل ، فقال معاذ بن جبل : وأنا أقوم وأنام ، وأحتسب نومتي كما أحتسب قيامي وصلاتي بالليل ، وهذا من فقه معاذ وعلمه بأن الجسد لا بد له من قسط من الراحة ، ولولا هذا القسط لعجز عن الطاعة ، ولهذا فهو يحتسب وقت النوم ويرجو ثوابه كما يحتسب وقت القيام للصلاة ، وفي هذا وأمثاله يقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : [ لك ما احتسبت ، لك ما احتسبت ] . -صلي الله عليه وسلم- ومن فقه التعبد أن يعلم العبد أن العمر قصير ، وأن القربات لا حصر لها ، وأن الوقت الواحد يصلح لعديد من الأعمال الصالحات ، ولكن لا يتمكن العبد فيه إلا من عمل واحد بعينه ، فيحرص على ما يراه أفضل العمل في ذلك الوقت . قال ابن القيم : أفضل أنواع العبادة العمل على مرضاة اللَّه تعالى في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل الأعمال في وقت الجهاد هو الجهاد ، وإن أدى إلى ترك الأوراد من صلاة الليل والنهار ، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن ، ولأجل هذا شرع اللَّه صلاة الخوف . وأفضل الأعمال في وقت حضور الضيف القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب وعن القيام بحق الزوجة والأولاد ، والأفضل في وقت السحر الاشتغال بالصلاة والذكر والدعاء والابتهال . والأفضل في وقت الأذان الإقبال على الصلاة وتحقيق شرائطها من طهارة وتَجَمل، واستحضار القلب للدخول على ملك الملوك بعد إجابة المؤذن. والأفضل في وقت استرشاد الجاهل هو الإقبال عليه وتعليمه ما ينفعه. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة أن تبادر إلى مساعدته وإغاثته وإيثار ذلك على أورادك، والأفضل في وقت قراءة القرآن جمع القلب على تدبره وتفهمه والعزم على تنفيذ أوامره حتى كأن اللَّه تعالى يخاطبك به. والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك. والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من العبادة والذكر ، خاصة التكبير والتهليل والتحميد ، فهو أفضل من الجهاد غير المتعين ، والأفضل في العشر الأخيرة من رمضان لزوم المسجد والاعتكاف فيه دون التصدي لمخالطة الناس ، حتى إنه أفضل من تعليمهم العلم، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم عيادته والتخفيف عنه . والأفضل في وقت موت أخيك المسلم تجهيزه وتشييع جنازته والاعتبار بموته والدعاء له... إلخ . [ [ مدارج السالكين ] ( ج1، ص100، 101) ] . الحرص على الأعمال المضاعفة الأجور ومن فقه التعبد أن يفاضل المؤمن بين الأعمال المندوبة؛ فيختار أفضلها وأعظمها أجرًا، ومن هذه الأعمال: * صلاة الرجل في الجماعة؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم-: [صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ]. [ متفق عليه ]. * الصلاة في المسجد البعيد أفضل من المسجد القريب؛ لأن كل خطوة يخطوها المسلم تحط عنه خطيئة، وتكتب له حسنة، وترفع له درجة. * التبكير إلى الجمعة ، والاغتسال يومها ، والإنصات للإمام ؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : [ من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ] [متفق عليه ]. ولقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : [ من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغُ ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها ] . [أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ] . * المكث في المسجد قبل الصلاة وبعدها ؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : [لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة ] ، ولقوله -صلي الله عليه وسلم- : [ ألا أدلكم على ما يمحو اللَّه به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ] الحديث [رواه مسلم ]. وسُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: [ يُكفر السنة الماضية ]. وقال -صلي الله عليه وسلم-: [ من صام رمضان واتبعه ستًّا من شوال فكأنما صام الدهر ]. * الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي -صلي الله عليه وسلم- ومسجد قباء؛ لقوله -صلي الله عليه وسلم-: [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا في المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة ] . [ أحمد ، وابن ماجه من حديث جابر رضي اللَّه عنه ] . ولقوله -صلي الله عليه وسلم-: [صلاة في مسجد قباء كعمرة ]. * صلاة العشاء والفجر في جماعة؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم-: [من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله ]. [ أخرجه مسلم ]. * صلاة النوافل في البيت؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم-: [صلاة الرجل النافلة في بيته أفضل من صلاة في مسجدي هذا ] . [ أبو داود بسند صحيح ] ، ولقوله -صلي الله عليه وسلم- : [ خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ] . * الجلوس للذكر في المسجد بعد صلاة الصبح، وصلاة ركعتين بعد الشروق؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم-: [ من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر اللَّه حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة ]. [ الترمذي، وحسنه ]. * الذكر المضاعف. عن جويرية أن النبي -صلي الله عليه وسلم- خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح ، وهي في مسجدها ، ثم رجع بعد أن أضحى ، وهي جالسة ، فقال : [ ما زلت على الحال التي فارقتك عليها ؟ ] قالت : نعم . قال النبي -صلي الله عليه وسلم-: [لقد قلت بعدك أربع كلمات - ثلاث مرات - لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن : سبحان اللَّه وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ] . * قراءة خواتيم سورة البقرة كل ليلة ؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم-: [من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ]. قيل: تكفيه عن قيام الليل، وقيل: تكفيه من كل سوء. * قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات صباحًا ومساءً وعند النوم ، والأحاديث في ذلك كثيرة ، منها : [ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن ] . ومنها : [ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا يكفيك من كل شيء ] [ النسائي ، كتاب الاستعاذة (5430) ] . * قراءة سورة الملك؛ لقول رسول اللَّه -صلي الله عليه وسلم-: [إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجلٍ حتى غفر له، وهي تبارك الذي بيده الملك ]. [ حسنه الألباني في [ صحيح الجامع ] (2091) ] . وقوله -صلي الله عليه وسلم-: [ سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر ]. [ [ صحيح الجامع ] (3643) ]. * صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء وست من شوال. سُئل رسول اللَّه -صلي الله عليه وسلم- عن صوم يوم عرفة ؟ قال: [ يُكفر السنة الماضية والباقية ]. [ رواه مسلم ]. * الإكثار من العمل الصالح في عشر ذي الحجة؛ لقوله -صلي الله عليه وسلم-: [ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى اللَّه تعالى من هذه الأيام ] يعني : أيام العشر ، قالوا : يا رسول اللَّه ، ولا الجهاد في سبيل اللَّه ؟ قال: [ ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء ].رواه البخاري . * العمرة في رمضان؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم-:[ عمرة في رمضان تعدل حجة]. الحرص على الأعمال التي يجري ثوابها بعد الموت * ومن فقه التعبد أن يحرص المؤمن على الأعمال التي لا ينقطع ثوابها بموته وانقطاع عمله كالصدقة الجارية ؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : [إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ] . * والحرص على الموت في رباط لجهاد أعداء اللَّه وحماية ثغور المسلمين ؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : [ رباط يوم وليلة أفضل من صيام شهر وقيامه صائمًا لا يفطر وقائمًا لا يفتر ، وإن مات مرابطًا جرى عليه كصالح عمله حتى يبعث ، ووقي من عذاب القبر ] . [ أخرجه أحمد (22619) ] . وفي رواية لمسلم: [ وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان ]. ومن الرباط: المكث في المساجد بعد الصلوات - كما تقدم. * ومن الفقه أن يحرص المؤمن على تحصيل هذا الثواب بالحرص على الإخلاص ، ومتابعة النبي -صلي الله عليه وسلم- ، وترك البدع والمحدثات ، وعدم الاغترار ببدع تعبدية وردت فيها أحاديث واهية أو آثار ضعيفة أو منامات وحكايات ، فخير الهدي هدي محمد -صلي الله عليه وسلم- ، وشر الأمور محدثاتها . ومن الفقه ألا يعجب المؤمن بعمله ويغتر به ، بل يظل على خوفه من عدم قبول العمل مع رجائه في ثواب اللَّه عز وجل . ومن الفقه ألا يُحبط المؤمن عمله بانتهاك حرمات اللَّه تعالى إذا خلا بها ، أو بالاعتداء على حقوق الآخرين ؛ لقول النبي -صلي الله عليه وسلم- : [لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا ، فيجعلها اللَّه هباءً منثورًا ] . قال ثوبان: صفهم لنا، جِلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم ؟ قال: [أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم اللَّه انتهكوها ]. [ [الصحيحة ] (505) ]. وقول النبي -صلي الله عليه وسلم-: [ أتدرون ما المفلس ؟ ] .قالوا : المفلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال :[ إنَّ المفلس مِنْ أُمتي من أتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طُرح في النار ] .رواه مسلم. واللَّه الموفق والهادي إلى سواء السبيل. |