الخشوع في اللغة: الانخفاض والذل والسكون، ويجمع ذلك كله الخضوع والضراعة، فالخضوع في البدن والضراعة في القلب، والخشوع يكون في القلب والبدن، في السمع والبصر والعظم والعصب، ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في ركوع الصلاة: ((اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)).مسلم (771). والخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة، والذل والانكسار، فهو قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل واستشعار عظمة ذي الجلال والإكرام. درجات الخشوع(1) والخشوع على ثلاث درجات: الأولى: التذلل للأمر، والاستسلام للحكم، والاتضاع لنظر الحق. أما التذلل للأمر فهو تلقي الأوامر الشرعية بذلة القبول والانقياد والامتثال، مع إظهار الضعف والافتقار إلى هداية الرب لمعرفة الأمر الشرعي، وإعانته عليه حال فعله، ثم قبوله بعد ذلك. والاستسلام للحكم الشرعي يكون بقبوله وعدم معارضته برأي أو شبهة أو شهوة، وكذلك الاستسلام للحكم القدري يكون بالرضا بالقضاء وعدم تلقيه بالتسخط والكراهة والاعتراض. والاتضاع لنظر الحق بمعنى تواضع القلب والجوارح وانكسارها لنظر الرب إليها واطلاعه على ما في القلب والجوارح، فلا يجترئ على المعاصي مع علمه بنظر الرب إليه، ولا ينصرف إلى غير اللَّه تعالى، وقد نظر اللَّه إليه، ونصب وجهه لوجه عبده فيخاف من نظر الرب تعالى بالاطلاع عليه، والقدرة عليه. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]، ولهذا قال بعض السلف الصالح: ((لا تجعل اللَّه أهون الناظرين إليك))، فتستحي من اطلاع بعض العباد عليك، ولا تستحي من اطلاع رب العالمين عليك ونظره إليك، وبهذا يتحقق مقام الإحسان، أن تعبد ربك كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. الدرجة الثانية: ترقب آفات النفس والعمل، ورؤية فضل كل ذي فضل عليك. ويتحقق ذلك بالنظر إلى عيوب نفسك وتقصيرها في حقوق الله وحقوق العباد، وعدم الاغترار بالعمل، وشكر صاحب المنة عليك على فضله، ولهذا فلا يكتمل التعبد إلا بمطالعة عيب النفس، ومشاهدة منة اللَّه تعالى من الهداية والإعانة والتوفيق، ولهذا شرع لنا المولى تبارك وتعالى الاستغفار بعد العمل الصالح، فبعد الصلاة يستغفر العبد ربه ثلاثًا كما كان هدي النبي-صلى الله عليه وسلم- ، وبعد الإفاضة من عرفات وذكر الله تعالى، يستغفر العبد ربه، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199]. الدرجة الثالثة: حفظ الحرمة عند المكاشفة، وتصفية الوقت عن مراءاة الخلق. فإذا كشف الله للمؤمن عن بشارة من المبشرات كرؤيا صالحة أو ثناء أهل الخير أو غير ذلك لم ينبسط ويُدل ويعجب، بل يزداد وجلاً وخوفًا وخشوعًا، وقد كان السلف يخافون من ظهور الكرامة أن تكون استدراجًا، ويزدادون بالبشارات خوفًا وطمعًا وعملاً صالحًا، ولا يهتم المؤمن إلا بإخلاص العمل لله، وإخفاء حاله عن الناس كخشوعه وحرصه على الخيرات، ولهذا كان الصالحون يقولون لمن أثنى عليهم ومدحهم على أعمالهم: ((اللهم اجعلني خيرًا مما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون)). ويقول قائلهم:لو كان للمعاصي رائحة لابتعد الناس عني. والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامةٍ بهوان خشوع المؤمنين وخشوع الكافرين الخشوع سمة من سمات المؤمنين المتقين، ومنهاج لحياتهم لأنهم عرفوا اللَّه العظيم بأسمائه وأوصافه وقدرته وعلموا ضعف نفوسهم وحاجتهم إلى اللَّه عز وجل وافتقارهم إليه، ولهذا خشعت قلوبهم وجوارحهم للَّه رب العالمين وألانوا الجانب لإخوانهم من المؤمنين، ولكنهم يعتزون بعبوديتهم للَّه، وجهادهم في سبيله، فهم كما يقول ربهم سبحانه: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. ولقد أثنى اللَّه تعالى على عباده المؤمنين الخاشعين في كتابه الكريم في مواضع عديدة فقال سبحانه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89، 90]. فاستجاب اللَّه دعاء نبيه زكريا حين طلب الذرية الصالحة، وأصلح له زوجه لتنجب الذرية بعد أن كانت عاقرًا، ووهب له يحيى مصدقًا بكلمة من اللَّه وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين، ثم أثنى على هذه الأسرة المؤمنة بأنهم يسارعون في الخيرات ويحرصون على الطاعات، ويدعون ربهم رغبًا ورهبًا، خوفًا وطمعًا، خاشعين خاضعين متذللين لله رب العالمين، فكان من فضل اللَّه تعالى أن استجاب لهم وأصلح أحوالهم ورضي عنهم. وأثنى اللَّه على المؤمنين الخاشعين من أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتاب الأول، وآمنوا بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يمنعهم الحسد ولا الكبر من متابعة الحق، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه ليشتروا بآيات اللَّه ثمنًا قليلاً تافهًا حقيرًا كحب الزعامة والرياسة والمال كما فعل المستكبرون الكافرون، بل خشعوا لله وخضعوا، وآمنوا بالله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله، ولذلك وعدهم اللَّه الأجر العظيم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199]. وهدد اللَّه الذين ترددوا وأحجموا عن الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبالقرآن الكريم، وأثنى على المؤمنين الخاشعين الذين أوتوا العلم فقال: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً. وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107- 109]. وعاتب اللَّه المؤمنين، وحثهم على الاجتهاد في تحصيل الخشوع لله، وتدبر آياته، وحذرهم طريقة المستكبرين من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم، فلم يستمروا على العمل به والانقياد له، بل طال عليهم الزمان، فضعف إيمانهم وزال يقينهم وقست قلوبهم وغفلوا عن الحق، فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]. فما أحوج القلوب المؤمنة إلى أن تُذكر بما أنزله اللَّه عز وجل، وأن تتدبر كلام الله، فإن الغفلة تتسلل إلى القلوب فتسبب قسوة القلب، وجمود العين، ولهذا كان ابن عمر إذا تلا هذه الآية يقول: ((بلى يا رب، بلى يا رب)). يا قسوة القلب ما لي حيلة فيكِ ملكتِ قلبي فأضحى شر مملوكِ حجبتِ عني إفادات الخشوع فلا يشفيك ذكر ولا وعظ يداويكِ وما تماديك من كثف الذنوب ولكن الذُنوب أُراها من تماديكِ يا نفس توبي إلى الرحمن مخلصةً ثم استقيمي على عزمٍ ينجيكِ واستدركي فارط الأوقات واجتهدي عساك بالصدق أن تمحي مساويكِ واسعي إلى البر والتقوى مسارعة فربما شُكرتْ يومًا مساعيكِ والصالحاتِ ليوم الفاقةِ ادخري في موقفٍ ليس فيه من يواسيكِ وأحسني الظنَ بالرحمن مسلمةً فحسنُ ظنك بالرحمن يكفيكِ فإذا خشع المؤمن بين يدي ربه وخالقه ومولاه حبب اللَّه إليه طاعته ويسرها عليه، فوجد فيها أنسه وراحته وقرة عينه، واستشعر المحبة لله والمهابة والتعظيم له سبحانه، ولدينه وشرعه، واستشعر بمناجاته لقاء ربه والعرض عليه، فأحب هذا اللقاء وأحب العبادة والصلاة لأنها تُعجل له هذا اللقاء في الدنيا فاستعان بالصلاة واستعان بالصبر على الطاعة فخشع قلبه لله، وخشعت كل جوارحه. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ. الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45، 46]. أما الكافرون المعاندون الذين استكبروا عن طاعة اللَّه وعبادته، فقست قلوبهم، وران- غطى- عليها ما يكسبون من الذنوب والخطايا والكفر والتكذيب فلم يعرفوا لله حقًا، ولم يرجوا لله وقارًا ولم تخشع قلوبهم لله، ولم تطمئن لذكر الله فأولئك لا يخشعون لله إلا إذا عُرضوا على النار، {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ. أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 6- 9]، {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَ هَمْسًا} [طه: 108]، {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ. مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 7، 8]، و{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج: 43، 44]. فما كان أحوجهم إلى الخشوع لله في الدنيا ليغفر الله ذنوبهم ويؤمنهم يوم الفزع الأكبر، قال أصدق القائلين: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]. خشوع النفاق يحرص بعض الناس على إظهار الخشوع أمام الناس، فتراه يحني جبهته ويتماوت في مشيته، ولا يكاد يفارق مسبحته يعبث بحباتها ليوحي للناس أنه من الذاكرين، فإذا خلا بمحارم اللَّه انتهكها، وربما تفضحه عينه، أو فلتات لسانه، وربما أظهر التمرد على أحكام الشرع مدعيًا أنه من أرباب الحقائق العالمين بالبواطن، ويكثر هذا في المدعين للزهد والتنسك من المتصوفة، الداعين للبدعة، المخالفين لهدي النبي-صلى الله عليه وسلم- وهدي الراشدين، وسلف الأمة الصالحين. ولقد كان السلف الصالح يحذرون من هذا الخشوع الكاذب ويسمونه خشوع النفاق، فكان حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه يقول: إياكم وخشوع النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا، والقلب ليس بخاشع. فاللهم إنا نعوذ بك من خشوع النفاق، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسمع. (1) مدارج السالكين (1/559)، وما بعدها. |