إذا كانت الشريعة الإسلامية ربانية من حيث المصدر والوجهة والغاية، فإنها أيضا شريعة إنسانية، فهي تخاطب الإنسان وتكرم الإنسان وتوائم وتلائم بين الجانب الروحي وبين الجانب المادي الغريزي في الإنسان. وإذا كان المصدر ربانيا، فإن الإنسان هو الذي يتفهم هذا المصدر. وهو الذي يستنبط منه كما سبق أن بينا حين تحدثنا عن الاجتهاد، وهو ما أسميناه بالتشريع ابتناء لا ابتداء. وإذا كانت هناك بعض المذاهب والفلسفات التي تهتم بالإنسان، إلا أنها جميعا لا تبلغ في ذلك مبلغ الإسلام، فهي لا تعرف الإنسان معرفة كاملة، بل دائما تنظر إليه من جهة معينة ومن جانب واحد، مغفلة في نظرتها باقي الجوانب والزوايا في حياة الإنسان. وبنظرة سريعة على المذاهب والفلسفات والنحل التي ما تزال قائمة نجد أن منها ما ينظر إلى الجانب الروحي للإنسان غير عابئ بجانبه الحسي أو المادي، ومنها ما ينظر إلى الجانب المادي للإنسان غير عابئ بجانبه الروحي فلا يعترف بالإنسان إلا ترسا في آلة. ومن هذه المذاهب ما يعطي الإنسان الفرد من الحقوق والحريات ما يطلق له العنان بلا حدود ولا قيود، ومنها ما يكبل الإنسان ويقيده ويحطم إنسانيته ويحرمه من مجرد الهمس، وفي النهاية لا نكاد نجد نظاما أو مذهبا يتعامل مع الإنسان من حيث هو إنسان كما يتعامل الإسلام، بما يتسم به من خصائص ومميزات: 1 -الوسطية: الوسطية سمة من سمات الشريعة الخالدة فقد تتعامل شريعة من الشرائع أو مذهب من المذاهب مع التطرف القائم بتطرف مضاد حتى تحد منه وتقضي عليه، فإذا ما تسنى لها ذلك، فلابد أن ترجع عن تطرفها العلاجي إلى الوسطية والتوازن. والشريعة الخالدة لذلك منزهة عن التطرف، فهي شريعة وسط متوازنة. وكذلك أمة الإسلام أمة وسط، فالشريعة هي التي تصنع الأمة، والأمة هي التي تقيم الشريعة، لذا كانت الأمة الوسط هي التي تقيم الشريعة الوسط [وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا] {البقرة:143}. والوسط هو الخيار والأجود، يقال قريش أوسط العرب نسبا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا، ويقول النبى صلى الله عليه وسلم فأسألوا الله الفردوس الأعلى فهو أوسط الجنة وأعلى الجنة. وعلى هذا تكون هذه الأمة أوسط الأمم وأفضلها، وتكون شريعتها خير الشرائع وأوسطها، لأنه لما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب. والوسط هو العدل، قال ابن حجر: هو مرفوع من نفس الخبر، أي تفسير الوسط بالعدل مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من رواية. وعلى هذا تكون هذه الأمة هي أعدل الأمم، وتكون شريعتها أعدل الشرائع. قال ابن جرير: والذي أرى أن معنى الوسط في الآية الجزء الذي بين الطرفين والمعنى أنهم وسط لتوسطهم في الدين فلم يغلوا كغلو النصارى، ولم يقصروا كتقصير اليهود، ولكنهم أهل وسط واعتدال. والآية كما يرى ابن حجر تحتمل كل هذه التفسيرات فلا تعارض بينها ولما كانت هذه الأمة هي أوسط الأمم وخصها الله بأوسط الشرائع والمناهج ومنحها بذلك أهلية الشهادة على من سواها من الأمم السابقة عليها [هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس] {الحج:78}. 2الوضوح:- تتميز شريعة الإسلام بالوضوح التام، الوضوح في الأصول والعقائد، والوضوح في الشرائع، والوضوح في الغايات والأهداف، والوضوح في المناهج والطرق وترجع سمة الوضوح أساسا إلى وضوح المصدر الذي تستقي منه أحكام الشرائع ألا وهو الكتاب والسنة، فالكتاب الكريم المنهاج الحق المبين لا خلاف عليه، ولا خلاف فيه، صانه الله تبارك وتعالى عن التبديل والتغيير، ويسره وسهله للذكر [ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر] {القمر:17} [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون] {الحجر:19} وسنة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه واضحة جلية رغم محاولات أعداء الدين تشويهها وخلطها بما ليس منها للتلبيس على الناس، ولكن الله تعالى حفظها ووفق أناسًا لتدوينها وتمييز صحيحها من سقيمها. وأحكام الإسلام، لا تقتصر معرفتها على بعض الناس دون غيرهم، فهي ليست أحكاما كهنوتية تدرس بين جدران المعابد، ويتوارثها الأبناء عن الآباء ولا يجوز لأحد غيرهم أن يطلع عليها، ولكنها أحكام واضحة جلية في مصادر ثابتة واضحة تدعو كل من عنده قلب وعقل وفهم ليعيها ويعمل بها ويعلمها غيره. "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم". ولكن الناس يتفاوتون في سعة مداركهم ومقدار أخذهم واستيعابهم لأحكام هذه الشريعة، فمنهم العلماء العاملون المجتهدون، ومنهم الحفاظ الناقلون، ومنهم المعرضون عن الحق والخير، وفي بيان ذلك يضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل فيقول: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءا ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به". وأحكام الإسلام تنقسم إلى قسمين رئيسيين. 1 -قسم يجب على كل المكلفين معرفته ولا يسع المسلم في الظروف العادية أن يجهله، مثل أركان الإيمان والاعتقاد، وأحكام الصلاة والطهارات... إلخ. 2 -وقسم لا يجب على كل المكلفين معرفته، وإنما يجب على مجموع المكلفين أن يكون من بينهم من يعلمه، ويسمون أهل الذكر الذين قال الله فيهم [فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون] {النحل:43}. أما القسم الأول فهو فرض عين على كل مسلم مكلف، وأما القسم الثاني فهو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، لذلك لم يأمر الله تعالى الجميع بالسفر لطلب العلم، ولكن أمرهم أن يسافر بعضهم لطلبه [وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم] {التوبة:122}. 3الثبات والمرونة:- الشريعة الإسلامية هي الشريعة الخاتمة الخالدة نسخت كل الشرائع، وبقيت ثابتة خالدة لا تنسخها شريعة أخرى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فهي شريعة ثابتة راسخة لا تتغير ولا تتبدل. والثبات مطلب عزيز وغال، يمنح الشريعة شرعية قوية ثابتة ويعطيها من الاحترام والتقديس الكثير، ولكنه في ذات الوقت يصم الشريعة بالجمود أمام ما يعن من حوادث وقضايا، والجمود عيب كبير في الشرائع التي تصاب به. وجميع التشريعات والقوانين تسعى لحل هذه المشكلة بالتغيير والتعديل، والتغيير مطلب ملح لمواجهة الحوادث المتجددة والمتغيرة، ولكنه يصم الشريعة بعيب كبير، وهو عدم الاستقرار بما يشعر الناس بالقلق الدائم والخوف من المستقبل. ولا شك أن التوفيق بين الثبات والمرونة أمر في غاية الصعوبة. وهو يمثل مشكلة من أكبر المشاكل التي تواجه صناع القوانين، فالثبات يستلزم الجمود والتغيير يعني عدم الاستقرار. ولقد استطاعت الشريعة الربانية التغلب على تلك المشكلة المعضلة فهي الشريعة الوحيدة التي استطاعت أن تجمع بين الثبات والمرونة في آن واحد، فلقد طبقت هذه الشريعة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، فإذا ما نظرت إليها وطبقتها الآن أحسست أنها وليدة العصر الذي نعيش فيه، وهذه هي المعجزة الربانية الكبرى. ولكن كيف تغلبت الشريعة الربانية الخاتمة والخالدة على هذه المشكلة، أعني مشكلة الجمع بين الثبات والمرونة؟ إن شريعة الإسلام التي ختم الله بها الشرائع، قد أودع الله فيها عنصر الثبات والخلود وعنصر المرونة والتطور في آن واحد، ويمكن أن نحدد مجالات الثبات ومجالات المرونة في هذه الشريعة إجمالا في عدة أمور: فالثبات يكون على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات، والثبات يكون على الأهداف والغايات، والمرونة في الأساليب والوسائل، الثبات على القيم الدينية وأمور العبادات، والمرونة في الشئون الدنيوية من التعاملات والسياسات. الثبات على المصادر الرئيسية من قرآن وسنة، والمرونة فيما عدا ذلك من مصادر فرعية متجددة كالعرف والمصلحة والقياس والاستحسان. وعلى هذا يمكن تقسيم أحكام الشريعة الإسلامية إلى قسمين رئيسيين. قسم يمثل الثبات وقسم يمثل المرونة والتطور، وهذا ما عبر عنه ابن القيم حيث قال: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة شرعا. والثاني يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحلالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها حسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله.. الخ. فيدخل في القسم الأول ما ثبت بدليل قطعي كالقرآن والسنة المتواترة والإجماع ويدخل في القسم الثاني ما ثبت بدليل ظني كاجتهاد أو نحوه. ويدخل في القسم الأول ما كانت دلالته على معناه دلالة قطعية، ويدخل في القسم الثاني ما كانت دلالته على معناه دلالة ظنية ويمكن أن نضرب بعض الأمثلة على ما سبق وبيناه إجمالا: 1 -القرآن الكريم يأمر بالشورى ويحث عليها "وشاورهم في الأمر" ويمتدح المجتمع المسلم لالتزامه بالشورى "وأمرهم شورى بينهم"، ولكن القرآن الكريم والسنة المطهرة ليس فيهما إلزام بشكل معين ولا أسلوب محدد للشورى، بل الأمر متروك في ذلك لظروف الزمان والمكان فالأمر بالشورى ثابت لا يتغير، وطريقة الشورى وأسلوبها من المرونة بمكان بحيث تخضع لظروف الزمان والمكان. 2 -القرآن الكريم يأمر بالعدل والقسط "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، و"لا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى" فأوجب الله تبارك وتعالى الالتزام بالعدل في المجتمع المسلم، والعدل الكامل حتى مع الأعداء، ولا يسمح بأي تهاون أو تساهل في إقرار العدل ومنع الظلم وهذه هي دائرة الثبات فلا يستطيع أحد تغيير حكم الشرع في الأمر بالتزام العدل ومنع الظلم لأنه ظلمات يوم القيام. والنصوص لم تتقيد بشكل معين لنشر العدل، ولا لأساليب التقاضي بين الناس بل إن هذا متروك لظروف الزمان والمكان والمصلحة، وهذه هي دائرة المرونة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة: وهكذا نجد أنفسنا مقيدين بالتزام أحكام الكتاب والسنة الثابتة التي لا تزال قائمة ما قامت هذه الشريعة، ومع هذا التقيد نجد أن هناك مجالا واسعا فسيحا للاجتهاد والتشريع، وهذا يكون كما بينا في دائرتين. أولا: ما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة، وهي ما يمكن أن يطلق عليه منطقة الفراغ التشريعي، فقد ترك الشارع الحكيم هذه المنطقة وهي ما يطلق عليه بعض الفقهاء "العفو" لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا وقرأ "وما كان ربك نسيا". ثانيا: النصوص المتشابهة ظنية الدلالة التي تحتمل أكثر من تأويل سائغ وأكثر من فهم وأكثر من رأي وفي هذا فسحة وسعة. ولهذا نجد كبار الفقهاء ينصون على تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان، وكانوا يسيغون تغير الاجتهاد في المسألة الواحدة من وقت لآخر، ويقول قائلهم ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي. وقد كان للشافعي مذهبان أحدهما القديم في العراق، والآخر الحديث في مصر حيث تتغير ظروف المكان. وقد عقد ابن القيم فصلا في تغير الفتوى بحسب ظروف الزمان والمكان قال فيه: هذا فصل عظيم النفع جدا وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم وصالح العباد في المعاش والمعاد. فهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل... ثم يدلل ابن القيم على كلامه المجمل بذكر أمثلة عديدة يطول المقام جدا إن استقصيناها. 4 -الشمول:- والشمول من لوازم ومتطلبات الخلود، فالشريعة الإسلامية الخالدة ما نزلت إلا لتطبق في كل مكان وزمان، وكل من يتفهم دعوة الإسلام ووجوب نشرها وتبليغها يعلم يقينا أن الشريعة الإسلامية هي الشريعة الصالحة للتطبيق في كل مكان، ولا شك أن سريان أحكام هذه الشريعة على معظم بلدان العالم قديما في آسيا وإفريقيا وأوربا يؤيد هذا القول، والشريعة الإسلامية الخالدة هي الشريعة الصالحة للتطبيق في كل وقت وزمان، فهي خاتمة الشرائع، نسخت كل الشرائع، ولا تنسخها شريعة وقد سبق أن بينا ذلك من قبل. ولا تقتصر جوانب الشمول في هذه الشريعة على صلاحيتها لكل زمان ومكان، بل إن للشمول جوانب أخرى منها: أن شريعة الإسلام تشمل كافة الجوانب التي يتعرض لها الإنسان في حياته، فهي عقيدة وشريعة وأخلاق، ولا تقتصر على جانب المعاملات بين الناس فحسب، بل تشمل معاملة العبد لربه ومعاملته لنفسه ومعاملته لغيره على السواء. وهي تشمل الإنسان في جميع أطوار حياته، وبعد مماته، وحتى وهو جنين في بطن أمه. وهي تشمل جميع المكلفين، ولا يستثنى أحد أيا كان من الخضوع لأحكامها حتى الإمام الأعظم نفسه فهو أحد المكلفين، بل هو أثقل المكلفين حملا. والله من وراء القصد. |