الجهاد هو بذل الجهد واستفراغ الوُسع في مدافعة العدو؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 77 - 78].
ففي هاتين الآيتين يتجلَّى موقعُ الجهاد في سلوك الأمة المسلمة، الأمة المؤمنة الراكعة الساجدة التي تعبد الله وتفعل الخير وتجاهد في سبيل الله، الأمة الوسط التي تتبوَّأ منزلة الشهادة على النَّاس وعلى الأمم يوم القيامة، الأمة التي ترفع لواءَ الجهاد في سبيل الله، فتقوم بأمر الله، وتدعو إلى سبيل الله بكل وسيلة من دعوة ومناصحة وتعليم ووعظ وقتال، الأمة التي تعتصم بالله مولاها ترجو تأييده وتوفيقه ونصره، هو نعم المولى ونعم النصير.
مراتب الجهاد
مراتب الجهاد خمسة:
جهاد النَّفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين، وجهاد أرباب الظلم والمنكرات.
فجهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهدى ودين الحق الذي لا فلاحَ لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه.
الثالثة: أن يجاهدها في الدَّعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة وأذى الخلق.
فإذا استكمل العبد هذه المراتب صار من الربَّانيِّين.
وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان:
إحداها: جهاده على دفع ما يُلقي إلى العبدِ من الشبهات والشكوك التي تقدح في الإيمان، ولا يتم ذلك إلا بالعلم واليقين.
الثانية: جهاده على دفع ما يُلقي من الشهوات، ولا يتمُّ ذلك إلا بالصبر عن المحارم والورع، وهو ثمرة الخوف والخشية من الله.
وأمَّا جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب، بالقلب واللسان والمال والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأمَّا جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات، فباليد مع القدرة، ثم باللسان، فإن عجز جاهد بقلبه؛ ((مَن رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))؛ مسلم.
فهذه ثلاثَ عشرةَ مرتبة للجهاد.
أَوْلويات للجهاد:
ولما كان جهادُ أعداء الله في الخارج فرعًا عن جهاد العبد نفسه في ذات الله؛ كما في الحديث: ((المجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله)) - كان جهاد النفس مقدَّمًا على جهاد العدو وأصلاً له، فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمرت به، وتترك ما نُهيت عنه ويذللها لطاعة الله، لم يمكنه جهاد عدوه، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يُجاهده، ولم يحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج.
فهذان عَدُوَّان قد امتُحن العبد بجهادهما، وبينهما عدوٌّ ثالث لا يُمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك حظوظ النفس وفوت اللذات، ولا يُمكنه أن يجاهدهما إلا بجهاده، وهو الشيطان الرجيم؛ ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6].
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الشيطان قعد لابن آدم بأَطْرُقِه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال له: أتسلم وتذر دينَك ودين آبائك وآباء أبيك؟! قال: فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنَّما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِّوَلِ؟! قال: فعصاه فهاجر، قال: ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال له: هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟! قال: فعصاه فجاهد))، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًّا على الله أن يدخله الجنَّة، أو قُتل، كان حقًّا على الله - عزَّ وجلَّ - أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة))؛ رواه النَّسائي وأحمد بسند صحيح.
فهذه من الأعداء ثلاثة، أُمر العبد بمجاهدتها، وسلطت عليه امتحانًا من الله له، فأعطى الله عباده مددًا وعدة وأعوانًا وسلاحًا لهذا الجهاد، وأمرهم أن يأخذوا بأسباب النَّصر والظفر؛ ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، وأعطى أعداءه مددًا وعدة وأعوانًا وسلاحًا، وابتلى المؤمنين بالكافرين، وجعل بعضهم لبعض فتنة؛ ليبلوا أخبارهم؛ ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4]، ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31]، فهيأ لعباده الأسباب وأمدهم بمدد من عنده، وجُندٍ من جُنده؛ ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ ﴾ [الأنفال: 12].
أسباب النصر وأسباب الهزيمة:
وأخبرهم أنَّهم إن امتثلوا ما أمرهم به لا يزالون منصورين على عدوِّه وعدوهم، وأنَّه إن سلَّطه عليهم؛ لتركهم بعضَ ما أُمروا به، ولمعصيتهم له، لَمْ يُؤيِّسهم ولم يقنطهم، بل أمرهم أن يستقبلوا أمرهم، ويُداووا جراحهم، ويعودوا إلى مناهضة عدوهم، فينصرهم عليهم.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 38-41].
وهكذا أوجب الله الجهاد على أوليائه، فبعد أن كانوا ممنوعين من قتال الكفار ومأمورين بالصبر، أذن الله لهم في القتال ووعدهم بالنصر.
عن ابن عباس: أنَّ عبدالرحمن بن عوف وأصحابًا له أَتَوُا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمكة فقالوا: يا رسول الله، إنَّا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنَّا صرنا أذلة، فقال: ((إنِّي أُمرتُ بالعفو فلا تقاتلوا، فلَمَّا حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال))؛ رواه النسائي بسند جيد.
التربية والإعداد قبل الجهاد:
عن خباب قال: أتينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو متوسد بُردة في ظل الكعبة، فشكونا إليه، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا، فجلس محمرًّا وجهه، فقال: ((قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يُؤتى بالمنشار، فيجعل على رأسه، فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكب ما بين صنعاء وحَضْرَموت ما يَخاف إلا الله - تعالى - والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون))[1].
ومن الجهاد قيام الرجل بتربية أهله وولده، وتعليمهم أمورَ دينهم، وحثهم على حسن الخلق، وطاعة الله، وطاعة رسوله، وترك المعاصي، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وتأديب مَن يَخرج عن هذا النَّهج، والصبر على ذلك، وبذل الجهد فيه، فلا شكَّ أنه من أعظم أنواع الجهاد، وثمرته الفوز بالجنة والنَّجاة من النار؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
حكم الجهاد:
الجهاد فرض في الجملة بحسب الوُسع والطاقة، فأمَّا جهاد النفس في ذات الله - تعالى - وجهاد الشيطان، فهو فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد، وأما جهاد الكفَّار والمنافقين، فهو فرض كفاية قد يُكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصودُ الجهاد؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، وقال: ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 95].
وفي الصحيح: ((مَن آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقًّا على الله أن يُدخله الجنة، جاهد في سبيل الله، أو مات في أرضه التي ولد فيها))، قالوا: أفلا نبشر الناس؟ فقال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كلِّ درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة))؛ رواه البخاري.
وقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَخرج بنفسه للجهاد، ويبعث غيره أحيانًا ويقول: ((والذي نفسي بيده، لولا أنَّ رجالاً من المؤمنين لا تطيبُ أنفسهم أنْ يتخلفوا عني، ولا أجدُ ما أحملهم عليه، ما تَخلَّفت عن سرية تغدو في سبيل الله))؛ رواه البخاري.
فهذا يدل على أنَّ القاعدين غير آثمين، طالما تحقق مقصودُ الجهاد بغيرهم، وقد وَعَد الله الطائفتين الحسنى، وفضل المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا.
متى يصبح الجهاد فرض عين؟
ويتعين الجهاد في الحالات الآتية:
1- إذا التقى الزَّحفان وتقابل الصَّفان، حَرُمَ على مَن حضر الانصراف، وتعيَّن عليه القتال؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ﴾ [الأنفال: 45].
2- إذا هجم العدوُّ على قوم، أو نزل بلدًا للمسلمين، وجب على هؤلاء المسلمين أنْ يدافعوا، ووجب على مَن يليهم من المسلمين أنْ يعينهم، ويدفع عنهم، وينصرهم بما يستطيع.
3- إذا عيَّن الإمام قومًا واستنفرهم، لَزِمَهم النفير معه؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ ﴾ [التوبة: 38]، ولقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وإذا استنفرتم فانفروا)).
[1] "سنن أبي داود"، (3/47)، "صحيح ابن حبان"، (2897)، وصححه الألباني.