ثالثاً : الشورى الشورى أساس متين من أسس الحكم في دولة الإسلام أرشدنا القرآن إليها ، وأمر بها وأوجبها وجعلها سمة لجماعة المؤمنين ، ومنهج حياة " لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُـمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ " ( الشورى : 36– 39 ) . وحين خرج النبى صلى الله عليه وسلم من المدينة للقاء المشركين فى غزوة أحد ، وذلك بناءً على مشورة أكثر أصحابه ، ثم كانت الهزيمة ، ونزلت آيات القرآن بإيجاب المشاورة حتى لا يظن البعض أنها كانت من أسباب الهزيمة ، فيكون ذلك ذريعة لنبذها "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " (آل عمران 159 ) . وقد حفلت السنة النبوية بكثير من النصوص التي تحث على التزام منهج الشورى قولاً وعملاً على كل المستويات وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل في ذلك حتى ليقول عنه بعض أصحابه : (1) ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالشورى ضرورة من ضرورات الحياة لا يستغنى عنها مسلم ولا يبخل بها مسلم ، فالمستشار مؤتمن لا بفضى لأخيه سراً ، ولكن يدله على سبيل الرشد " إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه " (2) . "من استشاره أخوه فأشار عليه بغير رشد فقد خانه " (3) . والشورى بركة، فما شقي قط عبدٌ بمشورة، وما سعد باستغناء رأى، وما خاب من استخار ولا ندم من استشار. والمرأة تستشار ، وقد أشارت السيدة أم سلمة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية (4) ، وأهم ما تستشار فيه المرأة أمر زواجها ، فالبكر تستأمر والثيب تشاور (5) . و لا يجوز أن يولى على المسلمين والٍ أو يستخلف خليفة بغير مشورة ، وفى الحديث "لو كنت مؤمراً " – وفى رواية –مستخلفاً أحداً من غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد " (6) . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع المشاورة في أمره كله ، وكان يكثر أن يقول : " أشيروا علىّ أيها الناس واستشار أصحابه في بدر قبل القتال " ، وشاورهم في مصير الأسرى ، واستشارهم قبل الخروج فى غزوة الخندق ، وشاور علياً وأسامة في حادثة الإفك ، ولو تتبعنا حوادث الشورى في عصره لطال بنا المقام . وقد اتسع مجال العمل بالشورى في عهد الخلفاء الراشدين وذلك لظهور حوادث لم تكن تعرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اختيار خليفة المسلمين وحاكمهم . ومن المأثور عندهم فى ذلك " من بايع رجلاً من غير مشورة المسلمين فلا يتابع ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " (7) . وكذلك لجأ الراشدون إلى أسلوب المشاورة فى استنباط الأحكام الشرعية والاجتهاد في الأقضية ، فكان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر فى كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى به قضى بينهم ، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به ، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة ، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم (8) وبمثل ذلك كان يفعل عمر بن الخطاب . ثم كانت الشورى سبيلهم في كل ما جد من الأمور ، ولو استقصينا ذلك لطال بنا المقام جداً . حكم الشورى : اختلف أهل العلم قديماً في ذلك فمنهم من قال : الشورى مندوبة ، فما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل ، ولتقتدى به أمته من بعده . ومنهم من قال : الشورى واجبة لأن الله تعالى أمر بها نبيه والأصل في الأمر أنه للوجوب ما لم تصرفه عن الوجوب قرينة وهو عام في جميع الأمة ما لم يثبت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم به وليس أدل على وجوب الشورى من التزام النبي صلى الله عليه وسلم منهج المشاورة وهو المعصوم بوحي السماء ، وكذلك التزام الخلفاء الراشدين لهذا المنهج واجب الاتباع لقول النبي " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى " (9) بل إن الذين ذهبوا إلى استحباب المشاورة ربطوا الأمر بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم بالوحي ، ولكن غيره من الخلفاء والأمراء لا يملكون مثل هذه العصمة فوجب عليهم أن يعتصموا بمنهج الشورى . وهذا هو الذي يرجحه أكثر المتأخرين، لأن النصوص تدل عليه دلالة صريحة، ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج خلفائه من بعده تجعل الشورى أصلاً وأساساً متيناً للحكم في الدولة الإسلامية. موضوع الشورى وحدودها : وهى الدائرة التي يباشر فيها أهل الشورى اختصاصهم ولقد حاول البعض التضييق من مجال الشورى فزعموا أن الشورى لا تكون إلا في الحروب لأن اللام في لفظة " الأمر " ليست للإستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي باتفاق ، وليس ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في غزوة أحد . والراجح أن الشورى تكون في كل الأمور التي لم ينزل فيها وحى من السماء ، لأن لفظ " الأمر " لفظ عام خُص بما نزل فيه وحى ، فيبقى حجة في الباقي . إن وقائع الشورى في صدر الإسلام لم تكن قاصرة على أمور الحرب ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير في أمور عامة كثيرة كتعيين الولاة ، بل كان يستشير فى أمور عامة كثيرة كتعيين الولاة ، بل كان يستشير في بعض الأمور الخاصة كما استشار علياً وأسامة في حادثة الإفك . وكذلك لجأ الراشدون إلى أسلوب الشورى في الكثير من الوقائع التي تتعلق بمصالح الأمة كجمع القرآن وتدوين الدواوين . وتجارب الشورى تبين بوضوح أن الصحابة قد فهموا أن الشورى لا تكون إلا في الأمور التي لم ينزل فيها وحى من السماء لأن ما كان فيه نص قاطع فلا مجال للرأي فيه لوجوب طاعة الله ورسوله " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا " ( الأحزاب: 36 ) . أما ما نزل فيه وحى السماء ولم يكن قاطعاً في دلالته فهو محل للإجتهاد والاستنباط ، ولهذا فإنه يدخل في مجال الشورى من هذه الناحية ، وقد حدث هذا في عصـر النبوة حين نزل قـول الله تعالـى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً " ( المجادلة: 12 ) . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب : ما ترى ؟ دينار ؟ قال: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار ؟ قال : لا يطيقونه ، قال : فكم ؟ قال : شعيرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك لزهيد ، فنزلت " ءَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ " ( المجادلة: 13 ) . قال على : فبى خفف الله عن هذه الأمة (10) . قال ابن حجر : ففى هذا الحديث المشاورة فى بعض الأحكام . وفى هذا بيان أن الشورى تجوز فى الأحكام الظنية وفى كل ما يجوز فيه الاجتهاد ، وهذا تخصيص للقول بأنها لا تكون فى المنصوص عليه من الأحكام . أهل الشورى : لم تبين لنا النصوص من هم أهل الشورى ولا صفاتهم ولا عددهم، وجاءت السوابق التاريخية واسعة فضفاضة. فتارة يكون المستشار وحداً بعينه منتدباً أو متطوعاً ، وتارة يكون أهل الشورى عدد غير محصور وقد يكونون جماهير المسلمين ، وقد يكون أهل الشورى جماعة منتحبة تمثل المسلمين وهم الذين يطلق عليهم النقباء أو العرفاء ، وقد يكون المستشار رجلاً أو امرأة ، أو يكون شاباً أو كهلاً ، وقد كان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباباً (11) . ونتيجة لهذه المرونة في تشريع الإسلام للشورى اختلف أهل العلم في تحديد أهل الشورى وتحديد صفاتهم كماً وكيفاً فذهب البعض إلى أنهم أهل الحل والعقد وإن اختلفوا في تحديد هذه الفئة ، وذهب البعض إلى أنهم جميع أبناء الأمة ولكن لاستحالة جمعهم يختار من بينهم من يمثلهم لأداء هذه المهمة . والذي ينبغي أن نقرره أن الشورى في منهاج الإسلام تتسع لكل فكرة وكل نظام يحقق المشاورة عملاً ، فمن الجائز أن تقوم الأمة باختيار أهل الشورى على أن يشترط في المرشح أن يكون أهلاً لهذه المكانة ، ويجوز لولى الأمر أن يشاور أهل الاختصاص ويجوز أن تعرض بعض المسائل على الأمة جميعها أو غير ذلك . --------------------------- (1) ضعيف . أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه ( رقم 9720 ) ، ومن طريقه أحمد فى مسنده ( 4/328 ) ، وابن حبان ( رقم 4872 ) ، وغيرهما ، من طريق وغيرهما ، من طريق الزهرى عن أبى هريرة مرسلاً ، ضمن سياقته لحديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم الطويل ، وأصل القصة فى صحيح البخارى ، دون هذه الزيادة لإرسالها . وذكرها الترمذى (3/129) بغير إسناد . (2) ضعيف . أخرجه ابن ماجه (رقم3747) عن جابر بن عبد الله ، وسنده ضعيف . (3) فيه ضعف . أخرجه البخارى فى الأدب المفرد (259) ، وأحمد (2/321،365) ، وأبو داود ( رقم (3657) ، من حديث أبى هريرة مرفوعاً بأتم مما هاهنا ، وفى سنده عمرو بن أبى نعمة وهو لين الحديث . (4) أخرجه البخارى فى صحيحه ( رقم 2731،2732) فى قصة صلح الحديبية . (5) أخرجه أحمد (2/229) ، وابن المنذر – كما فى الفتح (9/192) – وهشيم مدلس وقد عنعن ، والحديث فى الصحيحين بلفظ : " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن " وله ألفاظ أخرى فى الصحيح . (6) ضعيف . أخرجه أحمد (1/76،95،107،108) ، والترمذى ( رقم 3808،3809) ، وابن ماجه (رقم137) ، وابن سعد (3/1/109) ، وأبو القاسم فى الجعديات ، والبغوى فى شرح السنة ، وغيرهم ، كلهم من طريق أبى إسحاق عن الحارث الأعور عن على بن أبى طالب ، والحارث واه ، وأبو إسحاق مدلس وقد عنعن ، وقد اختلط أيضاً ، ورواه الحاكم فى المستدرك (3/318) من طريقه عن عاصم بن ضمرة عن على . (7) البخارى ك الحدود ح 6830 ، وأحمد 1/56 ، وعبد الرزاق فى المصنف ج5 ص 445 ح9759 . من حديث عمر . (8) أخرجه الدارمى (1/58- رقم 161 ) من طريق ميمون ابن مهران ولم يدرك أبا بكر . (9) صحيح . أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم من حديث العرباض بن سارية . (10) ضعيف . أخرجه الترمذى (3300) ، والنسائى فى خصائص على ( رقم 152) ، وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن حبان (1764 ، 1765، 2208 – موارد ) ، وأبو يعلى وغيرهم ، وفى سنده على بن علقمة الأنمارى وهو ضعيف ، وله طريق أخرى عند الحاكم ( 2/482 ) نحوه دون آخره بغير هذه السياقة . (11) انظر صحيح البخارى ( رقم 7286 ) . كتاب الاعتصام ، باب 2 ، 28 معلقاً . |